عن واقع البحث البلاغي المعاصر وطموحاته
م* مصطفى رجوان
لربما كان أجدى، في سياق غمرة الدراسات البلاغية والركض المستمر، الوقوفُ خارج الذات والتأمل مليًّا في ممارساتنا البلاغية في السياقات الثقافية والحضارية والسياسية التي نمر بها اليوم. من هذا المنطلق توجّهنا إلى ثلّة من البلاغيين العرب المرموقين، والنشيطين في مجال البحث البلاغي، بالسؤال التالي: “كيف ترون واقع الدراسات البلاغية المعاصرة؟ وما رؤيتكم للمسار الأصلح لتطورها؟”. ولعلّ هذه المائدة البلاغية التي يجلِسُ فيها هؤلاء الأعلام، الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة، يمكِنُ أن تدفع الباحثين الآخرين إلى إعادة طرح هذا السّؤال والتفكير فيه بجدية، وترشد آخرين إلى أحد مسارات البحث البلاغيّ المعاصر للاشتغال بها، والتفكير في الإسهام في تطوير واقعنا العربي والرقي به.
محمد مشبال/ المغرب
تجديد النظر إلى البلاغة اليوم حاجة ضرورية يقتضيها عاملان؛ أولهما، مكانة وتأثير هذا الحقل المعرفي في تراثنا الفكري القديم بشكل عام. ثانيهما، حاجتنا الدائمة للبلاغة لأنها فعل لا ينفكّ عن وجودنا في تدبير علاقاتنا في هذا العالم الذي نعيش فيه. وبناء عليه، فإنني أرى أن هناك سبيلين يمكن أن يسلكهما البحث البلاغي العربي حتى لا يفقد جدواه وأهميته ويحافظ على مكانته ضمن الحقول المعرفية الأخرى:
يتمثل السبيل الأول في دراسات تقدم قراءات جديدة في الفكر البلاغي القديم؛ تظهر أن البلاغة العربية ليست مجرد تقنيات أسلوبية أو حجاجية، بل هي فكر انخرط في إثارة أسئلة تتعلق بالنص الديني والنص الشعري، وبقضايا التواصل وأدواته ومشكلاته. كما تظهر أنها معرفة متداخلة بغيرها من الحقول المعرفية التي جاورتها.
أما السبيل الثاني فيتمثل في ضرورة بناء بلاغة تستمد مفاهيمها وأدواتها من تفاعلها مع النصوص والخطابات سواءٌ أكانت أدبية أم تداولية، قديمة أم حديثة؛ فأحد وجوه القصور في التصورات البلاغية العربية الحديثة، أن أصحابها لا ينخرطون في ابتداع نماذج بلاغية من تفاعلهم مع النصوص، بقدر ما يبنونها بمحاكاة النماذج النظرية الموروثة أو الحديثة. ومن ملامح هذه البلاغة أنها تستوعب الرصيد البلاغي القائم بأدواته ومفاهيمه، ولكنها مطالبة ببناء رصيد جديد من المفاهيم والأدوات التي تستمدها من أنماط وأنواع الخطابات التي تنظر إليها. ولا شك في أن بناء هذه البلاغة لا يمكن إلا أن يكون بناءً منفتحًا على حقول أخرى تغنيها. ولا يمكن إلا أن يكون منفتحًا على القضايا والاهتمامات المستجدة في واقعنا.
هذان هما السبيلان الجديران بأن يسلكهما البحث البلاغي العربي اليوم إذا أراد أن يضمن لنفسه الاستمرار؛ سبيل يجذِّر البلاغة العربية في تربة الفكر العربي، وسبيل يرقى بها إلى أن تكون حقلًا نظريًا وإجرائيًا لمقاربة الخطابات التداولية والتخييلية.
محمّد بازّي/ المغرب
قد لا يسلم الحُكم في مثل هذه المحاورة المحدودة الكلمات من التعميم أو التنسيب أو التَّجني أو القسوة. ورغم هذا، فهو حُكم تأملي وتأويلي يُعْرَض ولا يُفرض عن “منجزات” بلاغية متفاوتة في القوة والصرامة العلمية. إن واقع الدراسات البلاغية العربية اليوم يبدو متوقفًا على الوصف والتحليل والنقد، منحصرًا في الشرح والتقريب والتأويل. دراسات جعلت من التراث البلاغي العربي موضوعًا للفهم والتأمل والشرح والبيان، أو اتخذت من المنجز البلاغي الغربي قديمه وحديثه موضوعًا للدرس أو التقريب أو التجريب أو التأويل، وذلك كُلُّه “إنجازُ تَعَلُّم” يتفاوت في الإجادة ودقة الفهم والتأويل. وأما “إنجاز الإبداع” والاقتراح وبناء النماذج والإضافة الجادة، فمن الصعب الكلام عنه في الوقت الراهن، فأغلب ما يُكتب أعمال طالب جامعي، نتائجه وحقائقه ودقائقه معروفة سلفًا، مع ترخُّص شديد في المقاييس العلمية الصارمة، وتفادي المشكلات العلمية الحقيقية في التخصص، والتهيب من مواجهة مخاطرات الافتراض والتحقق، مما يمكن أن يقدم مقترحات جديدة، ويحقق تراكمًا علميًا، أو طفرة معرفية. لذلك، تبدو صورة الدراسات البلاغة العربية مثل سفينة قديمة تتحرك ببطء في بحر البلاغة قبيل مساء ضبابي، بلا أفق ولا شمس تقريبا، بعيدة عن حاجيات الواقع، غارقة في المدرسية والتجريب المنهجي الذي لا يسلم من التطاول، والافتعال، أو السطحية، ولَيِّ أعناق المفاهيم.
أما المأمول الممكن، فهو التحول الواعي إلى التخصص العالِم المستجيب للحاجيات الإنسانية والعلمية والتواصلية والرقمية الراهنة، بفلسفة بلاغية تحركها روح العلم وإشكالاته وضوابطه. وإن بناء هذا المطمح العلمي يحتاج مجاهداتٍ فكريةً، وعقلًا فلسفيًا، وحماسًا بلاغيًا مختصًا في علم من علوم البلاغة بغية تطويره، أو توسيعه للانتفاع به في حقول معرفية مجاورة. كما يقتضي التطويرُ المبدع المطلوب الأنسَ بالنقد الإبستمولوجي، وفلسفة العلم، وضبط تاريخ المفاهيم، والانطلاق من المشكلات المعرفية الحقيقية في الدرس البلاغي، ومواجهة التراث نقديًا، وفلسفيًا، من أجل القبض على روح النظرية فيه، ونور العقلانية، وبهاء الحكمة، وفلسفة الأخلاق، ومعنى الوجود الدّال.
سعيد العوادي/ المغرب
تعيش البلاغة العربية اليوم أزهى لحظاتها، لكثرة المشتغلين بها وتنوّع أجيالهم من جهة، ونوعية المشاريع التجديدية التي يقترحها بعض الدارسين المحدثين من جهة أخرى. ولربما شجعتنا هذه اللحظة الاستثنائية على إضافة أفق تجديدي آخر اصطلحنا عليه بـ “البلاغة الثقافية” والذي يهدف إلى محاورة ماضي البلاغة العربية وحاضرها ومستقبلها، بالاستناد إلى منجز البلاغة ما قبل المدرسية مع الجاحظ والجرجاني وغيرهما ممن كانت الثقافة هاجسا لهم، مع الانفتاح الواعي على مستجدات “القراءة الثقافية”، كما يروم إعادة قراءة الخطابات اللغوية وغير اللغوية في تنويعاتها المركزية والهامشية سواء في مجالها التراثي أو العصري. ويظهر لي أن بلاغتنا الحديثة قد أمعنت في التركيز على الأنساق اللغوية في بعدها الجمالي أو الحِجاجي أو هما معًا، وقلّما التفتت إلى ربط علاقات بين هذه الأنساق اللغوية والأنساق الثقافية.
تنطلق البلاغة الثقافية من كون الخطاب اللغوي أو غير اللغوي منغرسًا بالضرورة ضمن خطاب آخر أكبر هو خطاب الثقافة، فترى أن مهمتها ذات طبيعة مزدوجة تجلّي الأثر البلاغي الماثل في الخطاب الأول، ثم تناقشه في ضوء الأثر الثقافي الماثل في الخطاب الثاني بطريقة بَيْنِية نقدية.
كانت البلاغة الثقافية محتشمة في دراساتي الأولى، ثم ما لبثت أن أعلنت عن نفسها بوضوح في دراساتي حول خطابات الوباء والتسوّل والرياضة والإشهار، وغدت أكثر وضوحًا في دراستيَّ: “مطبخ الرواية: الطعام الروائي بين المشهدية والتضفير”، و”الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي” الذي فاز هذه السنة بجائزة الشيخ زايد للكتاب، وجاء تقرير الفوز مُشيدًا بهذه المقاربة: “يمثِّل الكتاب مساهمة رصينة في توسيع آفاق الدراسات البلاغية العربية، متجاوزًا حدودها التقليدية ليشمل قراءات ثقافية حضارية تلامس قضايا الحياة اليومية”.
عماد عبد اللطيف/ مصر
تخيل مركبَ صيدٍ صغير يُبحر في محيط هائج، تكاد تعصف به الأمواج، وهو يكافح ليصيد ما يسدّ رمق أصحابه والعاملين فيه. هذه هي الصورة التي أستحضرها كلما فكرتُ في واقع الدرس البلاغي الراهن، عربيًا وغربيًا دون تمييز. فالبحث البلاغي الراهن مُحاط بمخاطر غير مسبوقة فرضتها الثورة التقنية الراهنة التي مكَّنت الآلة من أن تكون “كائنًا بلاغيًا” بالمعنى الكامل للكلمة. فالآلة البليغة قادرة الآن على أن تحل محل المتكلم البليغ، والباحث البليغ، والمخاطَب البليغ جميعًا في آن. كما آذنت هذه الثورة بظهور عصر جديد من تزييف الخطاب، والتلاعب بالجمهور، وفرض رقابة وتقييد على تداول الخطاب وتوزيعه لم يشهد العالم لها نظيرًا. وعلى الرغم من هذه المخاطر، فإن البحث البلاغي، أو المركب الصغير في أمثولتنا البسيطة، يتعين عليه أن يقوم بدوره التاريخي في تأمين المعرفة الضرورية للتواصل البشري؛ إقناعًا، وتأثيرًا، وقولًا جميلًا. يبدو مستقبل البلاغة العربية غائمًا في ظل هذا الواقع المتحول. فما تزال أغلب الدراسات البلاغية تستنفد جهدها في إعادة كتابة ما سبق أن كتبه الآخرون، وتغفل عن المخاطر الهائلة التي يفرضها الواقع الجديد. وفي تقديري أن السنوات المقبلة ستشهد تحولًا في مسار الدرس البلاغي العربي، ليصبح أقدر على تلبية احتياجات البشر والأوطان. وأتوقع أن تشكل ثلاثة توجهات بلاغية هي: البلاغة الرقمية، وبلاغة الآلة، وبلاغة الجمهور، التوجهات الأكثر ازدهارًا في المستقبل القريب. فهذه التوجهات هي الأكثر فعالية في مواجهة التحديات المعاصرة. والأجدر لقيادة مركب البلاغة إلى بر الأمان والفعالية معًا.
صلاح حاوي/ العراق
لا يمكننا أن نختلف في تحديد مرحلة “سيادة البلاغة” بين العقدين أو العقد والنصف الأخيرين، إذ فرض النشاط البحثي العربي حضورًا لا يسمح بتجاهله في المشاريع الفردية أو الجماعية التي قدّمت البلاغة بكل أشكالها التراثية والمعاصرة، وبوصفها علمًا لتحليل الخطابات أو فنًا أو وظيفة يحدّدها البحث البلاغي، ومع هذا الجهد الذي منح “البلاغة” سيادة على العلوم الإنسانية الأخرى، ثمة قناعات تستحق الوقوف عندها وتقديمها سؤالًا نبحث عن إجابته، هل تمكنت الكتابات البلاغية المعاصرة أن تكون مناسبةً لحجم الأحداث الخطابية في المجتمع العربي؟ وهل كانت قادرة على تحليل تلك الأحداث الخطابية وتوصيف وظائفها بأدوات ومناهج تنسجم معها؟ هل كانت البلاغة وسيلة من وسائل إنجاز الفعل الديمقراطي أو إزاحة العنف في مجتمع يعاني من التسلط في ظل هيمنة خطابات الكراهية؟ على الرغم من الثورة البلاغية وسيادتها وتراكمات المشاريع في هذا الحقل، لكنّ البحث البلاغي المعاصر لم يكن قادرًا على مجاراة هذا التحوّل الخطير في المجتمع العربي بجزئيه المشرقي والمغربي؛ ولذا ينبغي التخلّص من الكتابات الجنينية أو الكتابة البلاغية المولودة في حضن عمل بلاغي أكبر يجعلها رهينة لهذا الحضن أو تابعة بدون البحث عن بديل إجرائي آخر. نعم، ثمة أسماء ومشاريع بلاغية عربية معاصرة هي الأكثر إثارة وتأثيرًا في تاريخ البلاغة العربية، لكنّ مجتمعاتنا تحمل أفعالًا بلاغية منجزة خطابيًا تحتاج أيضًا إلى جهود مضاعفة عمّا نقرأ أو نكتب، مع العناية بوسائل وآليات مغايرة تناسب نوعية تلك الأحداث أو الأفعال البلاغية.
عادل المجداوي/ المغرب
سأستغل هذه المساحة الصغيرة لأعبر من منظور باحث ينتسب إلى جيل جديد عن بعض الإشكالات التي تعترض تطور البحث البلاغي العربي المعاصر، وإني لأرى أن الإشكال الأكبر يتعلق بالباحثين أنفسهم وكيفية اشتغالهم، فأمامنا مجموعة من المشاريع البلاغية بالإضافة إلى مجموعة من الأقلام المجتهدة ولكن سمة الفردية تلازم تقريبًا جميع الباحثين باستثناء الباحث عماد عبد اللطيف وما عداه فكل ذي مشروع بلاغي يشتغل في محرابه لا يكاد يحاور المشاريع البلاغية الأخرى. ومن ثم، فإن تطوير المعرفة يقتضي التحاور والانتقاد المعرفي بعيدًا عن المجاملات والتقريظ الذي نشهده في أغلب المناسبات العلمية. ولعل غياب التحاور بين المشاريع سبب من بين أسباب كثيرة في إشكالية المصطلح البلاغي، فليس في مكتبتنا العربية معجم بلاغي معاصر يرصد المصطلح الواحد بمفهوماته المتغيرة بحسب الباحثين المعاصرين. وغير بعيد عن ذلك، نشهد واقعًا قاسيًا يتمثل في تجاهل الباحثين المعروفين مجهودات بعض الشباب ومنجزاتهم في البلاغة؛ وبخاصة هؤلاء الشباب الذين ينزعون إلى الاجتهاد وتجاوز القضايا المطروحة عند الأعلام المعروفين. فيظل الاعتراف بهم وبذواتهم بالأساس مرهونًا بمدى تعريفهم بمشروع معين والترويج له بدل انتقاده ومحاورته، لأننا أمة تخاف النقد وكأنه جريمة لا يسلم صاحبها من تبعات تلاحق مسيره العملي قبل مسيره العلمي. وبناء على ما ذكرته آنفًا فإن أسباب تقدم البحث البلاغي بحسب رأيي رهينة بمراجعة المشاريع البلاغية المعاصرة وفتح حوار بينها، ثم الاعتراف بمجهودات بعض الشباب والإشادة بها وانتقاد أعمالهم أيضا تطويرا للبحث البلاغي.
***
بعد سماع هذه الأصوات المضيئة في البحث البلاغي العربي المعاصر أَمكن القول إنّ كلّ جيل يعبّر عن همومه وتطلّعاته، ولكلّ جيل شخصيته ورؤيته. هناك اختلافٌ في وجهات النظر، وتعدُّدٌ في المشاريع البلاغية والرؤى، لكنّها تتّحِدُ في قلق السؤال البلاغي، وتتّحِدُ في الهدف، سواءٌ أكان تطوير البلاغة نفسها أم تطوير الواقع العربي من خلال البلاغة. إنّها تدلّ على الوفرة ولا تتضاربُ فيما بينها. التعدّد والاختلاف مهمان. لا توجّه يلغي الآخر. فالبلاغةُ دينامية بطبعها وتقبل الاختلاف. البلاغةُ بلاغاتٌ نحتاجُها جميعَها. طابع البلاغة التعايش. لا بدّ أن تتعايش البلاغة مع نفسها في محيطنا الثّقافي الواسع بين المشرق والمغرب.
* باحث في البلاغة وتحليل الخطاب، المغرب.



