هل تأكل لتسد جوعك؟
مقال رائع للدكتور سفيان البراق حول كتاب “الطعام والكلام” في المنصة الثقافية المتميزة ثمانية، بعنوان لافت: “هل تأكل لتسد جوعك؟”
لم أفلح في معظم مراحل حياتي أن أخفي عن الآخرين علاقتي مع الطعام، فهي علاقةٌ مفضوحة، مبنية على الحب والوله. ولم أستشعر لحد الآن، وأنا أناهز الخامسة والعشرين، سعادةً شبيهة بتلك التي تشملني وتلفُّني حينما آكلُ طعامًا شهيًّا؛ آكله مستطيبًا ومُنشرحًا لكونه يبعد عني الهمّ، ويُنسيني مشاق الأيام. لا أستشعر هذه الغبطة حينما آكل مضطرًّا أكلةً سريعة، لكوني أجدها، بالرغم من لذتها وجودتها، مجرَّد مُضادٍّ للجُوع أو مُسكِّنًا له.
إنّ الأكلَ الذي ينعش خاطري ويمنحني السعادة والارتياح هو الأكل التقليدي؛ سواء أكان مغربيًّا أو مشرقيًّا: الرفيسة والعريكة والحاشي، كلّها أكلاتٌ تجعلني في حالة من الانتشاء الذي يُذهب العقل أحيانًا. أخذت هذه العلاقة تتطور حتى صرتُ أفتّشُ عن الطرائف والنوادر التي رواها أمراء البيان من العرب قديمًا عن الأكل والشرب، وغدوتُ ميّالًا أيضًا إلى البحوث الجادّة التي تنقّبُ في أصول المائدة، وتبحث في المراحل التي قطعها الطعام قبل أن يصير عبارةً عن ثقافةٍ تُعرف بها البلدان، وهويةً تقترنُ بها. وهذا ما لمستهُ في كتابٍ نال هذه السنة جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع: الفنون والدراسات النقدية، وأعني: «الطعام والكلام» للباحث المغربي سعيد العوادي.
قد يتبرَّمُ أحدهم من هذا التفخيم للطعام، ويعدني إنسانًا استهلاكيًّا، عبدًا لشهواته، خاضعًا لرغباته، فالعقلاء يمارسُون الرياضة ويتّبعون الحِمية، ويتحاشون الأكل، وأنا أسير في اتجاه مخالفٍ للجميع. كيف يكون الإنسان إنسانًا إنْ لم يكُن مختلفًا عن الآخرين؟ الإنسان لم ينَل هذه المرتبة إلّا بعد وعيه بحريته التي هي «حقه الطبيعي والبديهي».
حين أتحدث عن التلذّذ بالطعام، لا أعني بذلك الدعوة إلى الشَّرَه أو الإفراط، فأنا مدرك تمامًا لمخاطر السمنة وما تسببه من أضرار صحية ونفسية. ما أدعو إليه هو استعادة علاقة أكثر وعيًا وهدوءًا مع الأكل، علاقة تقوم على البطء والتأمل، حيث يصبح تناول الطعام لحظة حضور تام للذات. فالبطء في الأكل لا يمنحنا فقط فرصةَ التذوق، ولكن يحفّزنا لكي نطبخ بأنفسنا أطباقنا، وهذه متعة أخرى لا يدركها إلا من أَلِفَ أجود التوابل واستأنس بألذ النكهات.
إنّ هذا الكتاب، ينطلقُ أساسًا من الدفاع عن أطروحةٍ مفادها أنّ الطعام ليس إخمادًا لصرير المعدة، فهذه نظرة تقليدية، وضيّقة للغاية. إنّ الطعام، في شقِّيه، الأكل والشرب، اللذين يلتقيان في غاية «التواصل الغذائي»، يتعدّى الاقتران بالبطن ليتقلّد وظائف اجتماعية في غاية الأهمية من قبيل تيسير لقاء الكائن البشري بالعالم من خلال الأكل على حدّ قول باختين، وتقوية الإحساس بالضعيف والمُحتاج، وجعل الأواصر متينة ومتماسكة؛ إذ إنّ العائلة حينما تجتمع على المائدة، وتأكل جماعة، فهذا يقوّي الوشائج بين أفرادها، ويزيد في عمر العلاقة الاجتماعية، أو ما يمكن تسميته «قرابة الملح». كما أنّ الطعام يفرضُ على المرء استحضار الطبيعة والتفكير في المُناخ أيضًا.
غير أنّي أرى أن وظيفة الطعام الاجتماعية لم تعُد كما عهدناها، ولم تعُد تُسدي أيّ خدمة للمُجتمع؛ لأنّنا الآن نعيش في عصرٍ استشرتْ فيه الأسرة النووية الصغيرة التي استلبتها هموم الحياة، وغدا أفرادها لا يلتقون إلّا في المساء مُنهكين ومُتعَبين؛ كلّ واحدٍ منهم ينزوي في غرفته ملولًا ممّا صادفه في يومه، وبالكاد لا يلتفون حول المائدة إلّا ليومٍ واحد في الأسبوع، عكس العائلة الممتدة، سابقًا، التي تتحلّق حول السُّفرة وتتناول الوجبات اليومية الثلاث، ولا يبدؤون الأكل إلّا باجتماع كل عناصرها.
هل سيتصورُ عاقلٌ في زمننا هذا أنّ الطعام سيفرضُ على الإنسان التفكير في الطبيعة واستحضار معضلة المناخ، علمًا أنّه يأكل وجباتٍ سريعة على عجلٍ، وطبعًا لا يتذوقها، لأنّ هاجسه هو البقاءُ حيًّا لا استشعار لذة الطعام الحقيقية، فضلًا عن أنّ الإنسان المُعاصر هو نفسه من خرّب الطبيعة وجعل مُناخها مختلًّا.
ألّف العرب كثيرًا في أدب المائدة، ودبّجوا نصوصًا عن الضوابط التي يتوجب على من يود مجالسة الخلّان والندماء التحلي بها، وكتبوا كثيرًا عن منزلة الطعام، وميزوا بين الموائد والسُّفر: الوكيرة والوضيمة والوليمة والنقيعة والقِرى؛ فهذه الموائد ليست متشابهة إطلاقًا؛ لأنّ لكل واحدة منها دلالة محدّدة، وتقترنُ بمُناسبة اجتماعية – دينية معينة؛ وقد نجح الباحث سعيد العوادي في العودة إلى هذه المتون التي تناولت هذه المواضيع باستفاضة، ومحّصها ودرسها، فضلًا عن العودة إلى كتاباتٍ غربية تخصَّصت في الطعام وما يرتبط به، وقد اعتنت به أنثربولوجيًّا وسوسيولوجيًّا وسيكولوجيًّا؛ ليصل إلى خلاصةٍ مفادها أنّ العرب قديمًا تمكّنوا، عن اقتدار، من ترك إرثٍ لغويٍّ باذخٍ بتقسيمهم لأنواع الأكل: القضم والخضم والغذم، وميزوا بعناية فائقة مراتب الأَكَلَة: النَّهم والجشِع والجَعِمُ واللعوس، ووقفوا مطوّلًا عند رمزية الخبز، إذ إنّه ليس مجرد عجين، بل رمزٌ للثقافة العربية، فمائدة العربي لا تخلو من الخبز، أسود كان أم أبيض، فقد يُنظر إلى الخبز كنايةً عن حُسن القِرى، وقد يكون مجرّد تأثيث للمائدة؛ إذ إنّ الغالبية الآن صارت تتحاشى الخبز لمساوئه، غير أنّها عاجزة عن إبعاده عن موائدهم. كما برع العرب في سَكِّ ألفاظٍ لبقايا الطعام، نذكر أبرزها: القُرارة: ما يبقى من المرق اليابس في القِدر، واللُّماظة: بقية الطعام في الفم.

حاولَ العوادي أن يُبرز المكانة التي يتبوّأها الطعام في المعيش اليومي للإنسان العربي من الناحية الاجتماعية والثقافية؛ حيث أن للطعام قدرة على اختزال البلدان، فكم من بلدٍ ذاع صيته في العالم من خلال مطبخه، وله قدرة أيضًا على تبيان خواص كلّ بلدٍ: تاريخيًّا واجتماعيًّا وجغرافيًا؛ إذ من خلال ما يأكل الإنسان مثلًا نعرف البيئة التي ينتسبُ إليها. لم يكتفِ العوّادي بذلك بل بيّن أنّ الطعام لم يعُد حاملًا للدلالات والإشارات فحسب، بل غدا يتقلّد دورًا جوهريًّا في «صناعة حياة الإنسان»، وهذا يظهر من خلال ما لاحظه ابن خلدون من تباينات فيزيولوجية وذهنية وأخلاقية بين الناس سببها اختلاف الطعام، علاوةً على أنّه قد يُحدثُ تغييرات جوهرية في الحياة إذا غيّر المرءُ طعامه ونمط غذائه.
يزعمُ ابن خلدون أنّ الذين اتّخذوا البلدان القحطية موطنًا لهم، ولم يعرفوا طريقًا إلى الأدم واللحم، هم المتنعمون بالهناء وبالجسد القويم، وأخلاقهم محمودة، ويتّسمون برجاحة العقل. في حين أنّ الذين أَلِفوا اللحم وكثرة الأغذية فإنهم منحرفون وأجسادهم في غاية الامتلاء. الراجح أنّ الواقع يُفنّد تصور ابن خلدون الذي تبناه العوادي. فالطعام الجيّد، المستطاب، والمتنوع، ينعكسُ واضحًا على ملامح المرء؛ إذ تجده مرتاحًا، بشوشًا، هانئًا، مُقبِلاً على الحياة، لأنّ الجوع يغتالُ المشاعر الحسنة، ويشلُّ القدرة التفكير، ويُعطّل إمكانية الإبداع، فالجائع همّهُ إسكاتُ لهيب معدته فقط.
إنّ وفرة الطعام وتنوعه يزوِّدُ المرء بما يحتاجه الجسم، وذلك ما يجعلهُ متمتعًا بجسد متكامل لا يقربه الضعف. الظاهر أنّ الزعم بأنّ الجوع بوابةٌ لنباهة المرء وحذاقته غير منطقيِّ؛ إذ إنّ النباهة ليست محصورة على من يعاني الفاقة، فكم من مرةٍ نصادف رجلًا حصيفًا، صافيَ الذهن، وعلى بيّنةٍ من الأمور وهو غارقٌ في بحبوحة العيش. إنّ هذا التبخيس الذي رمى به ابن خلدون النَّهمَ والشّبع يُمكن أن يتبناه المتصوفة الطامعين في بلوغ مرتبة الزهد، مثل ابن عربي، الذي حثّ في فتوحاته على خوض تجربة: «الموت الأبيض». لكن الإنسان العادي هل يستطيعُ أن يُفكر أو ينتج أو أن يكون سويًّا معتدلًا ومحبًّا للحياة دون الاستمتاع بالطعام بشتى أصنافه وأشكاله؟
إن هذا الكتاب تمكّن من الوقوف عند رمزية طريفة ومذهلة في آن؛ فمنذ أن يولد الإنسان فإنه لا يستطيع مواصلة السير في الحياة بلا طعام. فطعامه حليب في البداية، ثم يتحول خبزًا ممزوجًا ببعض الخضراوات، ثم يصير الطفل مستكشفًا لعالم الطعام لوحده، فيجوب البيت ويلقمُ من هنا وهناك. وحينما يُولد الإنسان، يُحتفل بهذا الحدث، وفي بعض البلدان العربية، مثل المغرب، يُذبح عليه كبشًا أو تيسًا بُغية تسميته. فالطعام إذن حاضرٌ في حياة الإنسان، وفي كل مراحله العمرية، كما عبّر عن ذلك ابن طولون في رسالته الشهيرة «فص الخواتم فيما قيل في الولائم»، ويحضر الطعام أيضًا حينما يموت، فتعدُّ الوضيمة على شرف من أتوا للمواساة والتأبين والعزاء. ففي المغرب مثلًا، تُسمى الوضيمة بـ«عشاء الميّت»، فلا يمر العزاء دون أكل وشرب، فهما شرطان مقدّسان. ولم يعُد الكسكس، كما كان سابقًا، هو الوجبة الرئيسة في العزاء، بل صار الناس يستعينون بمُمَوِّن الحفلات، فيظفر المعزّون بأشهى الأطباق الجامعة بين الحلاوة والملوحة، وبين اللحم والخضار، والخبز والشوكة، فيأكلون بنهمٍ غير مُبالين بمن فُتِّت خواطرهم جراء الفقدان. ومن ثمّة فقد أصبح الطعام قنطرةً للتباهي والافتخار.
يظهر من خلال ما تقدّم أنّ الطعام ليس مهدئًا للهيب الجوع ومضادًّا له، بل إنّه يحفل بالرموز والإشارات الواضحة أحيانًا، والمستترة أحيانًا أخرى. ولعل ما يؤكد ذلك أنّ العرب، وقبل هذه الحالة البئيسة التي عمّت التّعازي، قد اتّخذوا الطعام بوابةً للتغنّي بالسخاء والجود بغية «الاحتفاء بقيمتي الشَّجاعة والكَرم»، وهذا إيجابي ومرغوب فيه، إذ إنّ الكريم هو من كثُر رماده، وأغدق على الآخرين، وجعلهم ضاحكين مستطيبين. وقد نجح هذا الأمر في توليد منافسةٍ محمودة بين القبائل العربية في أعلاهم كرمًا وسخاءً، وهذا ما أفضى إلى تناقصٍ في عدد الجائعين والمُحتاجين. أمًّا أن يكون المرء قد فقد لتوّه عزيزًا فيكلِّف على نفسه ويتباهى بأجود الأطعمة دون استحضار الفقد، ويأتي الناس متوارين خلف المواساة ويبتلعون الطعام بأريحية فتلك معيبةٌ حقيقيةً ولا صلة لها بالكرم.



