من أجل بلاغة لخطابات الحياة اليومية
سعيد العوادي أكاديمي مغربي. وهو أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب في كلية اللغة العربية في جامعة القاضي عياض بالمغرب، ونائب العميد في البحث العلمي والتعاون. تتركز أبحاثه واهتماماته النقدية حول بلاغة البديع في الخطاب الشعري، وحجاجية الصورة، وبلاغة خطابات الحياة اليومية. وهو بذلك يسهم في إنزال البلاغة من برجها العاجي، في مسعى لربطها بأسئلة وقضايا تتصل باليومي والمهمش. في هذا السياق، أصدر مجموعة من الأعمال منها: “أسئلة البديع: عودة إلى النصوص البلاغية الأولى” (2009)، “حركية البديع في الخطاب الشعري: من التحسين إلى التكوين” (2013)، “بلاغة الصورة: نحو قراءة حجاجية لعلم البيان” (2021)، “في بلاغة النص الأدبي: مداخل تطبيقية” (2022)، “الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي” (2023)، وسيصدر له قريبًا: “مطبخ الرواية: الطعام الروائي من المشهدية إلى التضفير”.
في هذا الحوار، يقرّبنا الدكتور سعيد العوادي من معالم مشروعه البلاغي
(*) في البداية، أشكركم على تلبية الدعوة لإجراء هذا الحوار الخاص بـ”ضفة ثالثة”. واسمح لي أن أقترح عليكم أن نبدأ من مشروعكم العلمي الذي يتنزَّل في إطار تصور مغاير يرمي إلى تجديد البلاغة العربية، بدفعها نحو الاهتمام بالمهمش واليومي. هل لك أن تقرِّب القارئ من أهم مرتكزات هذا المشروع؟
قبل الإجابة عن سؤالكم، أودّ أن أعبّر لكم ولـ”ضفة ثالثة”، الموقع الثقافي العربي الرّصين، عن بالغ شكري وتقديري على ما تفضلتم به من دعوة كريمة لإجراء هذا الحوار الذي أعتز به كثيرًا. لقد حاولت خلال عقدين من الزمن أن أكون مخلصًا لمجال البلاغة دراسة وتدريسًا، فمنذ أن كنت طالبا في كلية اللغة العربية، التي كانت تنتمي آنذاك إلى جامعة القرويين، أنجزت كل بحوثي الجامعية في هذا المجال، حيث انصب بحث الإجازة على تعقّب تلقي بعض الباحثين العرب المحدثين لبلاغة الإمام عبد القاهر الجرجاني. وأعتقد أنني قد انطلقتُ في هذا البحث المبكِّر من رؤية تجديدية للدرس البلاغي، ستتطوّر رويدًا رويدًا في البحوث اللاحقة. إذ قدّمتُ محاولة أولية استكشافية رصدت خلالها أنواع التلقي الحديث لأهم منجز بلاغي تراثي، وحاولت، على قدر ما سمحتْ به تلك المرحلة، مراجعةَ بعض التصورات، والإلحاحَ على منطلق منهجي سيظل متحكِّما لديّ في قراءة التراث البلاغي العربي وفق سياقاته المنتجِة وأسئلته المؤطِّرة، مع الانفتاح على المستجدات البحثية الجديدة. ولكن من دون الوقوع في مطب “قراءة التماثل” التي تُماثل بين عبد القاهر الجرجاني، وغيره من البلاغيين العرب القدماء من جهة، وأعلام لسانيين ونقاد وبلاغيين غربيين من جهة أخرى، من غير مراعاة للمسافة الحضارية الفاصلة بين أعلام التراث وأعلام الغرب.
ثم انصرف بحث دبلوم الدراسات العليا المعمقة والدكتوراة أيضًا إلى العناية بعلم البديع، إذ تناولت في البحث الأول البديع بين تعدد الأسئلة والاشتغال النصي، متّخذًا من شعر أبي تمام متنًا للدراسة، ثم طوّرت نتائج هذا البحث في رسالة الدكتوراة التي تتبعت فيها البديع في الشعر العربي خلال القرنين الثاني والثالث، بالاعتماد على مدونة شعرية متّسعة تضم شعراء البديع السبعة، وهم: بشار بن برد، وابن هرمة، ومنصور النمري، وأبو نواس، ومسلم بن الوليد، والعتابي، أبو تمام.
وخلال هذه المرحلة، شرعت في إصدار الكتب البلاغية، مركزًا في البداية على نشر بحثي دبلوم الدراسات العليا المعمقة والدكتوراة، بعد مراجعتهما وتجويدهما. فصدر لي كتاب “أسئلة البديع: عودة إلى النصوص البلاغية الأولى”، ثم كتاب “حركية البديع في الخطاب الشعري: من التحسين إلى التكوين” الذي وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد سنة 2015. وهكذا كان البديع في صلب البدايات الأولى للتأليف البلاغي، إذ يرجع اهتمامي بهذا المبحث البلاغي إلى ما لاحظته من تهميش له في القديم والحديث؛ ففي القديم عدّه البلاغيون مجرد ذيل لعلم البلاغة، وفي الحديث تم تهميش تعليمه في المدارس والجامعات، فضلًا عن عدم اتخاذه موضوعا للبحث والمدارسة.
وضمن هذا السياق المرتاب من علم البديع، أتت دراستي له لغاية رفع ما لحقه من ضيم وإهمال، فرجعت إلى مرحلته الفنية، لأكتشف أنه كان عنصرًا مركزيًا أسهم بحظ وافر في الإجابة عن بعض الأسئلة الكبرى التي طرحتها الثقافة العربية الإسلامية آنذاك من قبيل: سؤال الشعرية، وسؤال المفاضلة، وسؤال المنهج، وسؤال الإعجاز. كما أعدت قراءة البديع في مرحلته العلمية، من خلال تآليف البلاغيين المتأخرين والدارسين المحدثين، لأتبيّن أنه ليس عنصرًا تزويقيًا تحسينيًا يمكن الاستغناء عنه في تحليل الأدب كما استقرّ على ذلك رأي المتأخرين والمحدثين، وإنما هو عنصر بنائي تكويني تقوم عليه أدبية النص، ويستحقّ أن يُدرّس في إطار كلي ناظم هو “البديعية”، كما أشار إلى ذلك أستاذي الدكتور محمد زهير في تصديره لكتاب “حركية البديع”. وتقوية لأطروحة “تكوينية البديع”، كان من اللازم علي أن أتجاوز التقسيم الشائع للبديع إلى محسنات لفظية ومعنوية، بوصفه تقسيمًا تحسينيًا بسيطًا لم يخرج عن ثنائية اللفظ والمعنى، لأقترح تقسيمًا آخر يستفيد من الرؤى الحديثة، ويراعي الطاقة الإنتاجية والإبداعية لعلم البديع، وهو: فاعلية التوازن، وتوترية المفارقة، ودينامية الحِجاج. بل إنني خلصت إلى أن سبب ميل حركة شعرية عربية وازنة نحو الإكثار من استعمال مكونات البديع عائد إلى أن البديع لا ينحصر في مستوى أسلوب التعبير فقط، وإنما يعلو إلى أن يكون نسقًا في التفكير، مما دفعني إلى عدّهم يصدرون عن “رؤية بديعية للعالم” ترى القصيدة قطعة من الكون البديع الذي نقلوا منه عناصر التوازن والمفارقة والحجاج.
لم تكن قراءتي التكوينية لعلم البديع بمعزل عن طموح تجديدي لعلوم البلاغة جملة، خصوصًا أن هذه العلوم قد انزلقت عن وظيفتها الأولى التي رسمها لها البلاغيون الأفذاذ، لتتحوّل بفعل المنظور المدرسي التعليمي إلى مجرد تمارين تطبيقية تدور في فلك شواهد مكرورة، وتستظهر إجابات مضبوطة، غايتها القصوى هي الاقتدار على استخراج الظاهرة وتسميتها، من دون العناية بتنمية الذوق الرفيع، والإفادة من المهارات العليا للذهن البلاغي في تحليل النصوص، وتمييز جيدها عن رديئها. وقد أدى هذا الأمر، يا للأسف، إلى الانتقال من علم البلاغة إلى علم المصطلح البلاغي… وشتان ما بين الأمرين!
“لم يحفل النقد الروائي ببحث ثيمة الطعام في الرواية العربية، ولعل مردّ ذلك إلى سيطرة النظرة البيولوجية للطعام التي تحصره في نطاق دفع الجوع وملء البطن”
وقد سنحت لي الفرصة حين درّست مادة “بلاغة الصورة” بإصدار كتاب “بلاغة الصورة: نحو قراءة حجاجية لعلم البيان”، عملت فيه على ربط هذا العلم بجذوره التداولية الحِجاجية التي فصلتها عنه الكتب التعليمية، ثم تعميق ذلك بما استجد في الدرس الحِجاجي المعاصر من معطيات مفيدة ومثرية، مما جعل من تدريس علم البيان مجالًا لمحاورة الفكر البلاغي القديم والنظريات الحجاجية الحديثة، وإطارًا لدمج المعرفة المصطلحية مع القدرة التحليلية للأمثلة التي أضافت للشواهد المعروفة نماذج من الشعر الحديث والرواية.
وإمعانًا في تقوية التحليل البلاغي للنصوص، صدر لي كتاب “في بلاغة النص الأدبي: مداخل تطبيقية” درست فيه نصوصًا شعرية ونثرية قديمة وحديثة، موظفًا آليات بلاغية مختلفة، بغرض التشديد على أهمية المدخل البلاغي في تحليل الخطابات المختلفة وإسهامه الحاسم في إنتاج المعنى وإبداعية القراءة.
وقد رسخ في ذهني أن إغناء المشهد البلاغي المغربي والعربي لا يقوم على الدراسات الفردية، سواء أكانت كتبًا، أم مقالات، فقط. بل لا بدّ من الانخراط في أعمال جماعية تستفيد من خبرات مختلفة ومنظورات متنوعة لمناقشة قضية إشكالية محددة. وفي هذا السياق، أسهمت بمقالات في كتب جماعية، كما نسّقت عددًا من الكتب البلاغية بشكل فردي، أو ثنائي، أو جماعي. ووصل عدد هذه الكتب إلى ثمانية، وهي: “التحليل الحجاجي للخطاب”؛ “البلاغة الثائرة: خطاب الربيع العربي: عناصر التشكل ووظائف التأثير”؛ “البلاغة المعجزة: قراءات جديدة في بلاغة التطبيقية للقرآن الكريم”؛ “قراءات في خطاب التفسير القرآني”؛ “البلاغة العربية وخطابات الحياة اليومية”؛ “البلاغة العربية وأسئلة المثاقفة”؛ “تأريخ البلاغة العربية: مسارات ورؤى”، و”البلاغة الموسّعة: قراءات في منجز محمد مشبال البلاغي”.
وأودّ اغتنام هذه المناسبة للإشارة إلى أن الكتب الجماعية التي من شأنها إثراء الحركة البلاغية هي التي تستهدف مناقشة الإشكالات الدقيقة التي تفرض تعاون الجهود وتكاملها لاقتراح أجوبة ممكنة. أما استسهال الأمر بالهروب عن الكتابة الفردية، وتعويضها بالكتب الجماعية، من دون أي داع معرفي، أو منهجي، فهو ما ينتمي إلى “الكتب التجميعية” لا الجماعية.
وكأي مشروع علمي، إذا جاز لي أن أسمّي هذا المسار البحثي مشروعًا، لا بدّ أن يتطوّر باستمرار، وأن يجوّد من أدائه بالتنقيح والتعديل والإضافة، فإنني سعيت في السنوات الأخيرة إلى إيلاء عناية خاصة بالبلاغة في تعالقاتها مع قضايا الحياة العربية؛ أي بالانتقال بالقراءة البلاغية من الخطابات المعهودة المكرّسة إلى خطابات مهملة تنتمي إلى المعيش اليومي، مثل خطاب الطعام، الذي خصّصت له ثلاث سنوات من البحث الدؤوب، وصدر خلال هذه السنة في كتاب وسمته بـ“الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي”.
في العلاقة بين الطعام والكلام
(*) لا شك في أن كتابكم “الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي” يلفت الانتباه إلى جانب ثر في الثقافة العربية لا يزال مطموسًا، ولم يحظ بما يكفي بالدرس. قربنا من مضامين هذا العمل؟
لقد كان الدافع إلى التفكير في التناول البلاغي لخطاب الطعام ـ والطعام هنا بمعناه اللغوي العربي الجامع بين الأكل والشرب ـ هو قراءتي لنص مكثَّف مثير في كتاب “مفتاح العلوم” للسكاكي، عرض له أثناء حديثه عن أسلوب الالتفات، فقال عن العرب: “أليس قِرى الأضياف سجيتهم، ونحر العشار للضيف دأبهم وهِجِّيراهم ـ لا مزّقت أيدي الأدوار لهم أديمًا، ولا أباحت لهم حريمًا ـ أفتراهم يحسنون قِرى الأشباح، فيخالفون فيه بين لون ولون، ولا يحسنون قِرى الأرواح، فلا يخالفون فيه بين أسلوب وأسلوب، وإيراد وإيراد. فإن الكلام المفيد عند الإنسان ـ لكن بالمعنى لا بالصورة ـ أشهى غذاء لروحه وأطيب قِرى لها”.
كانت إشارة السكاكي في هذا النص إلى الصلة المتوثقة عند العرب بين قِرى الأشباح القائم على الطعام، وقِرى الأرواح القائم على الكلام ـ وما بينهما من تطابق يظهره مبدأ المخالفة في الأطباق والأساليب معًا ـ منطلقًا نحو البحث في العلاقة الخفية بين الطعام والكلام من منظور بلاغي ثقافي يتعقّب الآثار ويستعين بالسياقات الثقافية والحياتية، خصوصًا أنه “ليس من التوافق الساذج أن تلتقي اللفظة واللقمة في فم الإنسان، فتلفظ الأولى إلى الخارج، وتلقم الثانية لتستقر في الداخل”.
ولما كان الطعام مؤثرًا في الكلام، وكانت الكتابة نفسها “محض عملية طبخ تامة ومتكاملة لمواد معرفية منتقاة، يستعمل فيها الكاتب الطاهي بهارات لغوية ومنهجية بخبرات مخصوصة، بغاية تقديمها إلى قارئ نهم متلهّف باستمرار إلى كل ما لذّ وطاب”، فقد سَهُل عليّ التعامل مع الكتاب مثل وليمة باذخة، وصغته منهجيًا بالاعتماد على مكوناتها البانية؛ حيث سميت المقتبسات “بيضة البُقيلة”، وهي أشهى شيء يقدمه الضيف للمدعوّين، وأعربت عن المقدمة بـ”المُفتِّحة”، واصطلحت على الفصول بـ”الأطباق”، ودعوت الخاتمة بـ”التحلية”، وترجمت عن لائحة المصادر والمراجع بـ”مطبخ الكتاب”.
رصد الكتاب خطاب الطعام في مصنفات اللغة والنقد والبلاغة والأدب والتاريخ والجغرافيا والدين والأحلام والأمثال. وبحث في الدلالات الحقيقية والمجازية لفعلي: “أَكَلَ” وشَرِبَ”، كما تتبّع رحلة الطعام في الثقافة العربية، وكشف عن تشابكاته مع منظومة القيم والسلوكات في بعديها الإيجابي والسلبي. ولم يكتف بضيافة الدنيا، وإنما خاض في “ضيافة الآخرة” من خلال مقاربة طعام أهل الجنة والنار، كما جاء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، مما أوقفنا على نمطين من الطعام الأخروي: طعام ثوابي في الجنة، وطعام عقابي في النار.
وعالج الكتاب الجسور التي يربطها الطعام مع أسئلة الإنسان العربي المتمثلة في الهوية والغيرية والجنوسة والطبقية، وما يتّصل بكل ذلك من تصالح وتصادم. كما عمّق الحديث عن جسور أخرى بين “طعام” النظرية البلاغية و”طعام” الممارسة البليغة، فكشف عن الجذور الطعامية للمصطلحات البلاغية المركزية، حيث نجد لمصطلح البلاغة عُلقة بـ”التبلُّغ”، الذي يعني اكتفاء المسافر بالقليل من الطعام، وعلى هذا الاعتبار يفسَّر احتفاء بلاغتنا العربية بالإيجاز الذي هو قليل من الكلام. ولمثل هذه التعالقات عرّف أحدهم البلاغة تعريفًا طعاميًا صريحًا، فقال: “البلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى”. وللفصاحة الداعية إلى خلوّ الألفاظ مما يشينها صلة شرابية تتمثل في اللبن الفصيح الخالي من الشوائب، في حين تتعالق الاستعارة بمعنى العارية التي كانت تدور عند العرب على أدوات الطبخ أساسًا، أما الذوق فهو صريح الانتماء إلى حقل الأكل والشرب. ولم ينس الكتاب لفت النظر إلى شواهد الملوحة والكرم التي استند إليها الدرس البلاغي في محور الكناية.
والناظر في الخطابات البليغة التي تعد مجالًا لاشتغال علم البلاغة، سيجد أن تسمياتها تقتبس من حقل الطعام الواسع؛ فالأدب مأخوذ من المأدبة، والفكاهة من الفاكهة، والمُلَح من المِلْح، والتحميض من الحَمْض. بل إن مفردات عالم الطعام قد غزت أسماء الشعراء نحو: الفرزدق، وابن سكّرة، والمِلحي، والخبزأرزي، والخبّاز البلدي، وامتدت لعنونة الكتب اللغوية والنقدية مثلما نجد في كتاب “التفاحة في النحو” لأبي جعفر النحّاس، وكتاب “موائد الحيس في فوائد امرئ القيس” لنجم الدين الطوفي، وكتاب “حشو اللوزينج” لأبي منصور الثعالبي…
وعندما نتأمل أصول الطعام الماثلة في الخبز والملح والنار والماء، نلفاها طافحة بأنواع من الرمزيات الحضارية والدينية والأسطورية التي تشيّد البنيان الثقافي للحضارة العربية الإسلامية، مما يحوّل الإطعام والضيافة من مجرد فعل بيولوجي غايته الشبع إلى فعل ثقافي اجتماعي هدفه التشبّع من القيم والرموز. ويبدو أن لهذا الفعل الثقافي مظاهر عديدة منها ما سميناه بـ”الطعام الحكيم” الذي تُبنى به الأمثال العربية للدلالة، للتعبير عن دلالات مختلفة وخبرات حياتية متنوعة، ويكفي أن نشير إلى المثل العربي: “فلان يعرف من أين تُؤكل الكتف” المعبِّر عن الشخص العارف المتبصِّر بأحوال أمر ما، وكذلك قولهم: “التمرة إلى التمرة تمر” الدال على مغزى اقتصادي ادخاري ينبغي اتباعه في تدبير الأموال والمعاشات. وتسرّبت مفردات الحقل الطعامي إلى العلوم والمعارف، حتى تحدّث العلماء عن “ثمرة العلم”، بل إنهم حوّلوا بعض تلك العلوم إلى وجبات طبخية مختلفة في مقدار طهيها، مثلما نقل الزركشي عن بعض المشايخ أنه قال: “العلوم ثلاثة: علم نضج وما احترق، وهو علم الأصول والنحو، وعلم لا نضج ولا احترق، وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق وهو علم الفقه والحديث”. وقد يعبّر الطعام في نوع من المواربة عن الإيروس، وهو ما اصطلحنا عليه بـ”الطعام الشبقي”، حيث يتمّ التعامل مع المرأة بوصفها مائدة من الفواكه فيها التفاح والرمان والعنب والتين. وكما تحضر الأطعمة في التعبير الكنائي والاستعاري عن جسد المرأة، يوصي العارفون بأسرار المآكل والمشارب بأطعمة الباه والفحولة.
“يبدو أن الواقع العربي اليوم في أمس الحاجة إلى بلاغة تنزل من أبراجها، وتتخفّف من انغلاقها على متون معدودة، لتمخر عباب بحر الحياة المعقّد والمتجدِّد”
وخصّص الكتاب طبقين متتاليين لحضور الطعام في الأدب: تناول الأول “شعرية الطعام: القِرى والمأكول والمشروب”، فبسطنا القول في لوحة القِرى كما تناوله الشعراء، وفكّكناه إلى بنيات صغرى انتظمت في مجموعتين متعارضتين: مجموعة مساعدة، وتتمثل في اليفاع والكلب والنار والناقة، ومجموعة معيقة تظهر في الليل والقرّ والزوجة. وأفضى بنا التحليل إلى الانتصار لصوت المرأة الداعي للتدبير، ضدًا على صوت الرجل الجاهر بالتبذير. ودرسنا مجموعة من النصوص الشعرية التي جعلت من المأكول والمشروب موضوعًا لها، فأبرزنا جوانب من جمالياتها ومضمراتها الثقافية.
واستعرض الطبق الرابع والأخير “نثرية الطعام: الموهوب والمنهوب والمرهوب”، متنقلًا بين نصوص الأخبار، والخطب، والرسائل، والمناظرات، والمقامات. وينتمي الطعام الموهوب إلى منظومة الكرم التي تحتفي بالعطاء في النثر الفني، والنثر الإرشادي، وكتب الطبيخ. فيما يندرج الطعام المنهوب ضمن عالم الطفيليين الذين وصل بهم الأمر إلى بناء “رؤية طعامية للعالم” تعكسها وصاياهم ومقولاتهم وسلوكاتهم. والغريب أن هؤلاء الطفيليين اعتمدوا سلاح الأكل العنيف المدعوم بصنوف من الحيل والمكر، مؤسسين لنوع غريب من المواجهة هو “المواجهة بالشراهة”، لأخذ حقّهم الذي سلبه منهم الأثرياء المتحكمون في الثروة. وكذلك سعى البخلاء ـ وهم أصحاب الطعام المرهوب، المحصِّنون لأكلهم ضد الأَكَلة المتربِّصين ـ لبناء عالم مضاد لعالم الكرم يسعى باستمرار إلى هدمه وفضح هشاشته، عادين أن الكرم معادل للإسراف، في حين أن بخلهم صنو للتدبير العقلاني، ومعتمدين في تعليل اعتقادهم على ضروب من المغالطات.
الطعام في الرواية العربيّة
(*) يبدو أن ثيمة الطعام حاضرة بقوة في الأدب العربي الحديث أيضًا، خصوصًا في جنس الرواية. فهل من إشارة إلى هذا الجانب؟
صحيح، فكما أن التغذية ببعديها البيولوجي والثقافي ملازمة للإنسان في المراحل التاريخية كلها، قديمها وحديثها ومستقبلها، فإنها حاضرة بجلاء في خطاباته المختلفة، وضمنها خطاب الأدب. ولمّا كانت الرواية هي “ديوان العرب” الحديث، فقد برز الطعام فيها بروزًا لافتًا، إذ تضمنت مطابخ متنوعة وموائد كثيرة، لم تكن غايتها محصورة في التوثيق لثقافة الطعام فحسب، ولكن اتخذتها مناسبة للإيهام بالواقعية من جهة، وفرصة للتوغّل في البنى المادية والثقافية للشخصيات والفضاءات من جهة أخرى.
وأود إخباركم أنني سأصدر في الأيام القريبة كتابًا يفصِّل القول في هذا الموضوع، وسمته بـ”مطبخ الرواية: الطعام الروائي من المشهدية إلى التضفير”، وسيكون متوفرًا في المعرض الدولي للكتاب المقام بالرباط، إن شاء الله. ولا ضير من أن أشارك معكم فكرته على وجه الإجمال.
لم يحفل النقد الروائي ببحث ثيمة الطعام في الرواية العربية، ولعل مردّ ذلك إلى سيطرة النظرة البيولوجية للطعام التي تحصره في نطاق دفع الجوع وملء البطن. وهكذا، يأتي كتاب “مطبخ الرواية” ليسد فراغًا واضحًا في المكتبة النقدية العربية، باعتماد مقاربة موضوعاتية ثقافية، ترصد “أطعمة الرواية” وتبحث في دلالاتها السردية والثقافية.
كانت نقطة الانطلاق هي البحث في “روافد الطعام الروائي” التي تركزت في رافدين متعاونين: الأول تراثي يتجلى في أدب الأخبار والمقامات، والثاني حديث يظهر في روايات الغرب وأميركا اللاتينية هي: “طعام… صلاة… حب” للروائية الأميركية إيزابيل جيلبرت، و”ذائقة طعام هتلر” للروائية الإيطالية روزيك بوستورينو، و”كالماء للشوكولاته” للروائية المكسيكية لاورا إسكيبيل، و”أفروديت” للروائية التشيلية إيزابيل أللّيندي.
وقد قادنا البحث في الحضور الطعامي داخل نماذج من الرواية العربية إلى تناول نمطين متعاقبين من الاشتغال السردي للطعام هما: الطعام المشهدي الذي يتخلل الوقفات الوصفية، والطعام التضفيري الذي يتشابك مع المكونات السردية المختلفة ليغدو رهانًا نصيًا. وهذا ما دفعنا إلى إمكانية الحديث عن مدخل “التأريخ الطعامي للرواية العربية”. وقد لاحظنا في النمط الأول دلالات ومقاصد تتّصل بثلاثة أنساق كبرى هي: الطعام هوية، والطعام رسالة، والطعام سلاح، من خلال اعتماد نمذجة للعمل تتكوّن من ست روايات، تمثل أربعة فضاءات عربية؛ فمن مصر، تناولنا رواية “بين القصرين” لنجيب محفوظ، ورواية “الإفطار الأخير” لهشام شعبان. ومن المغرب، عرضنا لرواية “بعيدًا من الضوضاء، قريبًا من السكات” لمحمد برادة، ورواية “جيران أبي العباس” لأحمد التوفيق. ومن سورية، اشتغلنا برواية “المهزومون” لهاني الراهب. ومن تونس، عرّجنا على رواية “الطلياني” لشكري المبخوت. وأما النمط الثاني، فقد تعاظم فيه الاهتمام بالمكون الطعامي، كما تفصح عن ذلك عناوين النصوص الروائية المدروسة، وهي: رواية “كُحل وحَبَّهان” للروائي المصري عمر طاهر، ورواية “برتقال مرّ” للروائية اللبنانية بسمة الخطيب، ورواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” للروائي الليبي محمد النعّاس.
(*) من المؤكد أن بحثكم في الكتابين يتجذر في منظور يرمي إلى بناء بلاغة للحياة اليومية. هل لك أن تقدّم لنا خلاصة مركزّة نختم بها هذا الحوار؟
فعلًا، أسعى في سياق تطوير مساري البحثي إلى بلورة بلاغة للحياة اليومية، توضَّحت معالمها في الكتابين السابقين اللذين اتجها إلى مقاربة ثيمة الطعام، بوصفها واحدة من التيمات المركزية للحياة اليومية. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنني شرعت في الاهتمام بهذا الجانب في مقالات سابقة، من قبيل: مقال “أعمى بروكلين: نحو قراءة تحليلية لبلاغة التسوّل”، ومقال “النص المتألِّم: قراءة بلاغية في أدب الوباء العربي”، ومقال “في الحاجة إلى ثيسيوس: المغالطات في الخطاب الإشهاري”.
ويبدو أن الواقع العربي اليوم في أمس الحاجة إلى بلاغة تنزل من أبراجها، وتتخفّف من انغلاقها على متون معدودة، لتمخر عباب بحر الحياة المعقّد والمتجدِّد، فتكون أداة لقراءة الخطابات اليومية المحيطة بالإنسان العربي في طعامه ولباسه وتواصله الواقعي والافتراضي وتدبيره للشأن العام وعلاقاته المختلفة.
رابط المقال الأصلي على موقع ضفة ثالثة