في ضيافة الطعام والكلام

في ضيافة الطعام والكلام

 

د. أحمد حديدة يقرأ كتاب “الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي للأكاديمي سعيد العوادي

 

ميزات ثلاث ما اجتمعت في كتاب إلا وحظي بالقبول الحسن في أوساط القراء وعموم مجتمع العلم والمعرفة: الجدة والجدوى والجاذبية، كلمات خفيفات على اللسان ثقيلات بعيدات المنال لا يدركهن إلا أولوا العزم والحزم ممن رام في علمه وعمله الاتقان والإحسان…

ولأن “لكل امرئ من دهره ما تعودا”، فإن عادة الأكاديمي القدير والبلاغي الشهير سعيد العوادي – منذ خطواته الأولى في مسالك البحث والتأليف وعبر كل محطات مسيرته العلمية الحافلة بالعطاء-إتحاف قرائه وإبهاج جمهوره بأنفع الكتب وأمتعها، كتب حرص صاحبها دائما على أن تجمع بين الحسنيات الثلاث، فجاءت -كما أرادها هو وكما تشتهيها أنفس القراء -استثنائية استكشافية متفردة مجددة مطبوعة بخاتم باحث مجد قدره التميز والتألق والنبوغ وارتياد الآفاق غير المطروقة والبحث الدائم عن الطريف المثير والغوص عن الحقائق النفيسة الغميسة التي يتحف بها متلقيه في تواضع جم يحسه كل من عاشره أو خالطه أو قرأ له… والحقيقة أن هذا الحرص الدؤوب على الاهتمام بالموضوعات ” الهوامش”، وعلى تقصي التفاصيل الناتئة، وعلى القيام بقراءات تقتنص أقاصي الأشياء ،بقدر ما تتحكم فيه نوازع ذاتية، بقدر ما يعد تنزيلا عمليا لمشروع فكري هادف يراهن على ضرورة تجاوز المألوف وتحرير العقول من سلطة الجاهز، وذلك عبر إنجاز مختلف ودراسات نظرية وتطبيقية تستهدف ما سماه الباحث في غير ما موضع ومناسبة ب” الهوامش البحثية” ، ويقصد هذا الرصيد النائم من المتون والنصوص والخطابات التي يزخر بها تراثنا العربي والمتروك خارج التفكير، إما جهلا بقيمته أو عجزا عن مقاربته أو فقط استكانة لسلطة العادة في مقاربة نوع محدد من النصوص التي غدت من فرط اجترارها بلا طعم ولا لون ولا رائحة.
كما يعد هذا المسعى من جهة أخرى مثالا تطبيقيا لما يمكن أن تنهض به البلاغة الجديدة الرحيبة والموسعة-التي يعد الدكتور سعيد العوادي واحدا من فرسان حلبتها-من أدوار وما يمكن أن تقدمه للباحثين من أدوات قرائية لمقاربة أنواع مختلفة من النصوص والخطابات، “قراءة ثقافية حضارية، يتحاور فيها التعبير مع التفكير، والأنساق مع السياقات، وتفتح فيها أبواب النصوص ونوافذها على مسرح الحياة الاجتماعية والثقافية”.يقول الباحث في مقدمة كتاب الطعام والكلام :” إننا في مسيس الحاجة إلى كتابة حديثة، تقلب أرض تراثنا لتكشف عن وجوه متفردة من النصوص والخطابات، بدل اجترار نصوص مكرسة معروفة ابتذلتها القراءات المكرورة، لأن تراثنا العربي كتب بصدق وصبر وعمق وذكاء، فهو جدير بمثل هذه البحوث والدراسات ويستحق بذل مزيد من الجهود للكشف عن عيونه المتخفية واعتماد الأدوات القرائية الجديدة والرؤى الفكرية العصرية”2.

ومن هذين الاعتبارين يستمد الكتاب الموسوم ب”الطعام والكلام حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي” قيمته وأهميته، إذ يمكن اعتباره استمرارا لمغامرات الباحث الواعية والمتبصرة ورسوا جديدا في أرض لم تطأها قبله أقدام بل أقلام الباحثين إلا لماما….

لقد تنبه العوادي بحس البلاغي المتمكن والفطن إلى أن العلاقة بين الطعام والكلام علاقة وطيدة في تراثنا القديم وأن وقوعهما في ذلك الحيز المشترك ” الفم” واشتراكهما في اللسان “آلة التذوق الكبرى من جهة”3 و”مرادف اللغة في مشمولها من جهة أخرى”4 لا يمكن أن يمر دون أن يتبادلا التأثير والتأثر، ودون أن تنشأ بين الحقلين جسور معبدة في الاتجاهين تسمح بأشكال من التلاقح والتحاقل والتداخل والتراسل التي يصبح معها الطعام ليس فقط “مادة قصاراها أن تهضم”5 ولكن ” مادة تسعى إلى أن تتكلم”6 ، وبعبارة أخرى –وأرجو أن أكون موفقا في الفهم و التعبير- يتأسس هذا الكتاب على فكرة أننا” لا نأكل الطعام فقط ولكننا أيضا نتكلمه” وتتسع عبارته” نتكلمه” لتشمل -في آن- معنى “نتكلم عنه “، حين يكون الطعام موضوعا أثيرا للخطابات الشعرية والنثرية البليغة وحافزا على إنتاج مآدب كلامية دالة على خصوبة التخييل والتجريد والابتداع ، و-في الآن ذاته- معنى”نتكلم به”، حين تعبر مفرداته واستعاراته إلى مجال الكلام لتتخذ أداة أو وسيلة للتعبير عن الأفكار والتصورات المختلفة ومنظارا نرى من خلاله العالم والحياة.
وفي الحالتين معا، يكف الطعام عن أن يصبح طعاما، ليتبدى في موائد الكلام في صيغ وأطباق مغايرة ذات أبعاد فنية ورمزية غائرة في العمق تستوجب التأمل والتحليل والتأويل.

ولا شك أن عمل الباحث في سبيل التدليل عن هذه الأطروحة أو الفكرة قد قاده أولا إلى السفر طويلا في أمداء التراث العربي مترامية الأطراف، باحثا عن “بقايا الطعام” في “حنايا الكلام “، في كتب التفسير والحديث والفقه والطب والتاريخ والنوادر والأمثال والمقامات والدواوين الشعرية، فتأتى له من النصوص والآثار ما جعل كتابه مدونة طعامية حقيقية وفضاء مضيافا تتلاقى فيه نصوص مستطرفة مستظرفة حافلة بأصناف المعارف والجماليات… ولا شك أن جمع هذه النصوص وحده قد كلف الباحث من الجهد والعناء ما لا يطيقه إلا باحث صبور وقراء جسور، ليعمد بعدها -كما قال -إلى “طبخها على نار هادئة” وتشكيلها في توليفة بديعة وتقديمها إلى قارئه متبلة ممزوجة بعمق تحليلاته وجودة تطبيقاته وما انتهى من نتائج دقيقة منعشة، موزعا إياها في أربعة أطباق رئيسة، حرص على أن تكون مشبعة مقنعة ممتعة في آن، وهي على التوالي:

-حقل الطعام : بين ضيافة الدنيا وضيافة الآخرة،
-جسور الطعام : من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ،
شعرية الطعام: القرى والمأكول والمشروب،
نثرية الطعام: الموهوب والمنهوب والمرهوب

وفي كل طبق من هذه الأطباق الفخيمة -التي يعين كل واحد منها -في الحقيقة- صنفا من النصوص والخطابات التراثية المستهدفة بالبحث- تنتظم مباحث غزيرة بل لذائذ وفيرة تغري كلها بالالتهام، إذ تتوالى متماسكة مترابطة يفضي بعضها إلى بعض، عصية عن التلخيص خالية مما يعتري الكتب عادة من الأفكار الزائدة أو الشاردة، ما جعلني أقف أمامها مدة حائرا عاجزا و حالي كحال المرتعش وهو يحاول أكل رمانة كلما أمسك بحبة وقال فزت بواحدة شهية ،إلا وسقطت منه حبات تضاهي تلك التي أمسك لذة وفائدة …
ومع ذلك، فقد لفتتنا في تلكم الأطباق مواضع آسرة أحببنا التنبيه إليها للتدليل على غنى مباحث الكتاب وثراء مضامينه، علما أن أي تلخيص لا يغني –في الحقيقة-عن قراءة الكتاب في ذاته.
في الطبق أو الفصل الأول الموسوم بالطعام بين ضيافة الدنيا وضيافة الآخرة :
يأخذ العوادي قارئه برفق لاستكشاف ملابسات حقل الطعام في تشكلاته الدنيوية وفي تشكلاته الأخروية في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، منطلقا في الشق الخاص بضيافة الدنيا من المدخل المعجمي للوقوف عند دلالات فعلي أكل وشرب اللذين يعدان -كما قال -“مدخلين أساسين لحدثي الطعام والشراب”، إذ يمكن من خلالها الولوج” إلى عالمين من الأنشطة اليومية التي تنطلق من ملء المعدة إلى ملء الثقافة بجملة من المعاني والدلالات”7.
وإبرازا للمكانة المركزية للطعام في حياة الإنسان العربي، سيبين في مباحث طريفة كيف يشكل الطعام عنصرا مؤثثا للتحولات النوعية في مراحل الحياة المختلفة ، لينتقل بعدها إلى رصد تقابلات الطعام في الحياة الاجتماعية والثقافية العربية ، وكيف تتجاذبه ثنائية المحاسن والمساوئ التي تختبئ في ثناياها التقاليد الثقافية المؤطرة لمنظورات الانسان العربي ، وكيف تشكل للطعام بعد هوياتي لينخرط في معترك الصراع داخل المجتمع، ويتحول اختياره موقفا يتبناه صاحبه ضد إيديولوجيا الآخرين أو آلية هجومية ودفاعية تعتمد عليه القبائل في الصراع فيما بينها في إطار “المعايرة بين القبائل”، أو وسيلة لمواجهة العرب لغيرهم من الشعوب في إطار ما سماه الباحث ب”المفاخرة بين الأمم”، وفي هذه الحالات كلها يغادر الطعام المائدة الغذائية إلى مائدة المجتمع الرحيبة لينخرط فيما يطرحه المجتمع من أسئلة الثقافة والدين والسياسة…

أما في القسم الثاني من هذا الطبق الدسم والمعنون ب” في ضيافة الآخرة “، فينتقل المؤلف من الحديث عن الطعام الدنيوي المشهود إلى الطعام الأخروي الموعود من خلال تأمل ودراسة الحضور الطعامي الشرابي في القرآن الكريم والحديث الشريف ، مستغربا من إهمال الدراسات لهذا الجانب، ووقوفها في حدود ثنائية الحلال والحرام دون التوجه صوب الدراسة البلاغية الموسعة التي من شأنها أن تفتح آفاقا جديدة لقراءة ما سماه ب”الإعجاز الطعامي في القرآن الكريم والحديث الشريف” لما له من دور في تثبيت المعجزة الربانية والحقيقة النبوية.
أما في الطبق الثاني، فيضعنا الباحث أمام وجبة علمية بمذاق مختلف وسمها ب “جسور الطعام: من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ”، إذ انصرف اهتمامه إلى رصد تشابكات الطعام مع الخطابات الحياتية ومن بينها البلاغة العربية ، وبعد نبش عميق في قاع اللغة العربية سيبين أن كثيرا من المصطلحات البلاغية هي في أصولها مصطلحات طعامية ، إذ كشف عن وجود علاقات عميقة بين مصطلح البلاغة والتبلغ الأكلي، وبين مصطلح الفصاحة واللبن الصافي، وبين مصطلح الاستعارة واستعارة الأواني المطبخية، ومصطلح الذوق وتذوق المآكل والمشارب….
أما على مستوى الشاهد، فركز الباحث على شواهد مشهورة اعتمدها البلاغيون في تقرير قواعدهم وجرهم شرحها إلى ربط صلات غائرة بين الطعام والكلام، ومن بينها تحديدا شاهد الملوحة وشاهد الكرم.
ثم انتقل في القسم الثاني من هذا الطبق/ الوجبة إلى إبراز حضور الطعام في الممارسة البليغة من خلال الكشف عن علاقات تربط الأدب بالمأدبة والفكاهة بالفاكهة والتحميض بالحمض والملحة بالملح، محسنا التخلص بعد ذلك للحديث عن المرجعيات الطعامية لأسماء الشعراء والكتاب وعناوين المؤلفات، لينتقل بعد ذلك إلى دراسة الرمزيات الطعامية لأصول الكلام العربي مقتصرا على رموز الخبز والملح والنار والماء…
ليمتد البحث بعد ذلك إلى مناطق في غاية الجدة والطرافة، وينتقل في جغرافية تراثية واسعة شعرية ونثرية وعالمة وشعبية لرصد الصور غير الطعامية للطعام من خلال مبحثين وسم الباحث أولهما ب”الطعام الحكيم “، درس فيه امتدادات الطعام في الأمثال العربية، وسمى ثانيهما ب “الطعام الشبقي” المؤطر ضمن استعارات تصورية كبرى هي ” الجنس أكل ” و”المرأة فاكهة” أو “مائدة حفيلة”.

أما في الطبق الثالث والذي عنونه ب “شعرية الطعام: القرى والمأكول والمشروب ، فيتحول المؤلف إلى رصد صور الطعام وأشكال حضورها في الشعر العربي مقسما الحديث في الموضوع إلى أقسام ثلاثة رئيسة: خصص أولها لدراسة تيمة القرى في الشعر العربي ليسافر بالقارئ بأسلوب سلس إلى فضاء الصحراء والبادية العربية، واصفا عادات أهلها التي يعد قرى الضيف أرسخها وأنبلها، مفككا هذه السردية إلى عناصر مساعدة هي: اليفاع والكلب والنار والناقة وعناصر معيقة هي :الليل والقر والزوجة. وفي إطار التنافس القائم بين رجال القبائل في سبيل تثبيت الكرم اللامشروط ، ينبه المؤلف إلى صوت آخر أكثر تعقلا هو صوت المرأة الداعي إلى الوسطية وحسن التدبير عوض إفناء المال وسوء التبذير.
أما في القسم الثاني من هذا الطبق فينتقل المؤلف إلى مبحث طريف يتمثل في دراسة “الشعر الطعامي” والذي يشكل -في نظره -غرضا قائما بذاته في تراثنا ، إذ كان مجالا خصبا للإبداع من طرف أقيوام من الشعراء اعتبروا وصف الطعام أشهى من حديث العشاق ورؤيته أحب إليهم من مغيب الشفق في الآكام وصوت أواني الطبخ أطرب من آلات الموسيقى، مركزا على تحليل وتأويل أشعار في غاية الطرافة لشاعرين برعا في هذا المضمار هما ابن الرومي والماموني…ولم يفت المؤلف في القسم الثالث من هذا الطبق الشهي دراسة نمط آخر من النصوص الشعرية الطريفة في تراثنا، والمتمثل في شعر الشراب، مركزا على خطاب “السمادير ” المنتج من طرف غلاة الثمالى الممعنين في الشرب المنتجين للصور المسكرة المبنية على الفضح والبوح ، ليبين أن هذا الشعر يعد تعبيرا عن الرفض وشكلا من أشكال المواجهة مع السلط القائمة…
أما في الطبق الرابع الأخير والموسوم ب “: نثرية الطعام الموهوب والمنهوب والمرهوب ”
فينقلنا المؤلف إلى عوالم جديدة ومثيرة نستجلي من خلالها تشكلات الطعام في النثر العربي بأنواعه المختلفة مركزا بالخصوص على الثالوث الطعامي المشهور: الكريم والطفيلي والبخيل المنتج على التوالي للطعام الموهوب والطعام المنهوب والطعام المرهوب، ليقحمنا وسط أناس مختلفي الطباع غريبي الأطوار مبينا فلسفاتهم ومحللا خطاباتهم، بدءا من فئة الكرام الوهابين للطعام جريا على عادة العرب، مرورا بفئة الطفيليين النهابيبن للطعام المتربصين بموائد الأغيار، وانتهاء بفئة البخلاء المبالغين في التقتير والتقشف وحجب النعمة عن أنفسهم قبل غيرهم من الأكلة المتلصصين، مبرزا بعد رصد محكي التطفيل ، بالبحث في بنيته السردية ومغالطاته الحجاجية والتناصية، أن التطفيل رؤية طعامية للعالم تبني عالما بديلا عن عالم الكرم التقليدي، كما بين أن البخل هو أيضا خطاب يحاول هدم مفهوم الكرم الهش ويبني في المقابل مفهوما مغالطيا يدعو إلى الاقتصاد والإصلاح…

والمهم أن نشير بعد هذا إلى أن جاذبية كتاب “الطعام والكلام” لا تتمثل فقط في محتواه الفكري الحافل بالقضايا والأسئلة العلمية الدقيقة، ولا في تحليلات صاحبه وتأويلاته الرصينة العميقة، ولا في أسئلته وتساؤلاته المربكة والمحفزة للفكر على بذل المزيد من الجهد في سبيل فهم تراثنا وتجديد طرائق قراءته، بقدر ما تتمثل -بالموازاة مع هذا كله – في كونه يقدم درسا بليغا لما ينبغي أن يكون عليه التأليف العلمي من حيث شكله وطرق تدبير مواده وعرضه على الجمهور، فمما يعلمنا هذا الكتاب حسب مؤلفه، أو بالأحرى مما ينبغي أن نتعلمه من هذا الكتاب، هو أن الكتابة ” محض عملية طبخ تامة ومتكاملة لمواد معرفية منتقاة يستعمل فيها الكاتب الطاهي بهارات لغوية ومنهجية بخبرات مخصوصة بغاية تقديمه إلى قارئ نهم متلهف باستمرار إلى كل ما لذ وطاب”8.
وقد أفضى هذا التصور بالمؤلف إلى إخراج كتابه في أبهى حلة وأجمل شكل في تماه رائق مع مضمونه ووفق استراتيجية محكمة هادفة إلى تصويره في شكل مأدبة، وذلك عبر إجراءات، نذكر منها:
1-الاستعاضة عن التسميات المألوفة في نعت أبواب وفصول الكتب بتسميات مبتدعة مستمدة من الحقل الطعامي، فسمى المقدمة مفتحة ، وهي الوجبة التي تستفتح بها المآدب الفخيمة من مأكولات مثيرة للشهية محفزة للنهم، وسمى فصول الكتاب بالأطباق، والتي من شروطها في المآدب أن تكون متنوعة مختلفة المذاقات ، وعوض الخاتمة بتسمية التحلية، وهي الوجبة الغذائية التي تختتم بها الموائد ، وقبل هذا كله نصب في أول الكتاب لافتة سماها ببيضة البقيلة ضمنها عبارات دالة وجميلة حول الطعام وعلى رأسها عبارة تفيد الترحيب وهي عبارة ” ادخل وكل”، كما ذيل البحث بلائحة للمصادر والمراجع وسماها بمطبخ الكتاب…
2- الاستغناء عن العادة الشائعة في تأليف الكتب والمتمثلة في تخصيص الفصول الأولى للتأطيرات النظرية والمنهجية والتاريخية، وإزعاج القارى بالمكرور والمعاد من المعارف التي كثيرا ما تشغل عن الموضوع الأساس، بل وكثيرا ما نجد حضورها بعد ذلك على مستوى التطبيق باهتا ، مفضلا هو – وما أجمل صنيعه- الدخول في الموضوع رأسا، والإحاطة بجوانبه تخصيصا، وأن يبقي الخلفيات النظرية السيكولوجية والانتروبولوجية والسوسيولوجية واللسانية المعرفية والدراسات الثقافية التي استند إليها من خفايا صنعته و أسرار طبخته “بحيث تذاق في أطباق الكتاب ولا تتزاحم على مائدته.” كما قال.
3- التزيين والتقديم:
من دلائل حسن التأليف والطبخ معا الحرص على عرض “أطباقهما” في أبهى حلة وأجمل صفة، وتكتسي طريقة تزيين الأطباق دورا كبيرا في كيفية تذوق الطعام، فالأطباق المزينة بشكل جميل تبدو أكثر شهية وتجعل الناس أكثر تشويقا لتجربتها…
وقد برع العوادي في تزيين أطباق كتابه بعناوين بديعة مختارة مصوغة بأسلوب يعتمد على تقنيات الطباق والسجع والجناس ما جعلها تتجاوز وظيفتها التعيينية إلى وظائف إغرائية محفزة على الإقبال على ما تحتها من لطائف وفرائد وفوائد، ومن أمثلة هذه العناوين الجميلة:
بين ضيافة الدنيا / وضيافة الآخرة
شعرية الطعام/ نثرية الطعام
القرى والمأكول والمشروب ///الموهوب والمنهوب والمرهوب .
ويمكن أن يتجاوز هذا البعد التزييني حدود العناوين إلى مسائل تتعلق بهندسة الكميات وتناسق الأجزاء وغيرهما مما يندرج في إطار الأسلوب الخاص للمؤلف /الطباخ وهو مما يصعب تتبع تفاصيله في هذه المقالة الموجزة…

وحسبنا أن نقول في الختام إن قيمة أو محاسن كتاب الطعام والكلام هي أوفى من أن تحيط بها قراءة سريعة غايتها الأولى تقريب القارئ من خطوطه العريضة وفتح شهيته للإطباق على أطباقه، ذلك أن هذا الكتاب بقدر ما يرسم أسيجة لمظاهر التحاقل بين الطعام والكلام في تراثنا بقدر ما ينزع في مواضع كثيرة إلى فتح مساقات ومسارب قصد تتبع دروبها واستكشاف أسرارها في بحوث مستقلة، وهو بقدر ما يقترح فهما خاصا للعلاقة بين الطعام والكلام في تراثنا، بقدر ما يبشر بآفاق واعدة وخصبة مفتوحة على احتمالات لا محدودة في القراءة والتأويل ، أو لنقل بالمختصر المفيد إن هذا الكتاب شأن الكتب المؤسسة والطليعية والمرجعية، وهو واحد منها بامتياز، بقدر ما يستحضر بقدر ما يستشرف…
وما أجمل دعوة المؤلف في الفقرة الأخيرة من كتابه حين قال: “ونأمل أن يفتح الكتاب شهية الباحثين لنتعاون جميعا في المضي في هذا الطريق اللاحب بالكشف عن تشكلات الطعام في خطابات أدبية قديمة جديدة مثل خطاب الرحلة وخطاب التصوف وخطاب الرواية لنخرج – والأصح لنعود- إلى بلاغة أكثر رحابة وأغنى فائدة، هي بلاغة الحياة”9.
ولكم يسعدنا حقا أن تجد هذه الدعوة في وقت وجيز تفاعلا منقطع النظير من الجم الغفير من الباحثين الذين احتفوا بهذا الكتاب الفريد أيما احتفاء، احتفاء ستعقبه -لا محالة- أبحاث ودراسات تقتبس من قبسه وتتنفس بمثل نفسه وتلهب جذوته وتؤنس وحدته باقتحام موضوع الطعام الشائق الشائك وفهم رمزياته وتجسيراته ….

الهوامش :
1-سعيد العوادي، الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2023 ، ص:15
2-نفسه، ص:15
3-نفسه، ص: 14
4-نفسه، ص: 14
5-نفسه، ص:14
6- نفسه، ص:14
7-نفسه، ص:19
8- نفسه، ص: 278
9- نفسه، ص : 280

رابط المقال الأصلي

 

آخر المنشورات من هذا القسم

Scroll to Top