ثنائية اللقمة واللفظة
في ظل تنامي البحث العرفاني اللساني أو ما بات يُعرف باللسانيات العرفانية، سقطت تلك المقولات الديكارتية القديمة التي ترى أن العقل أو الذهن متعال على الجسد، وأنَّ الجسد ليس سوى معطى جانبي غير ذي جدوى، بل أصبحنا أمام معطيات وفرضيات وحقائق جديدة ترى أن لأجسادنا سلطة على أذهاننا، وهذا ما وقع تسميته بفرضية الجسدنة أو العرفان المجسدن وفق ما اصطلح عليه أستاذ علم النفس العرفاني الأميركي رايمون جيبس في كتابه «الاستعارة والعرفان المُجسدن «
تبدو هذه الفرضية مغرية إذا ما استدعيناها في تفكيك كلامنا اليومي أو في تعقب اللغة الواصفة التي اعتمدها النحاة والبلاغيون في توصيف وجهات نظرهم حول اللغة والعالم، فالجسد وحركته من مأكل ومشرب وشمّ وتذوق يؤثر في اللغة تأثيراً بالغاً، فينتج الإنسان لغةٌ مجسدنة، حيث تتراءى لك عبارات التذوق والشم والإحساس والدفء ممثلة في اللغة أحسن تمثيل، وهذا يكشف لنا عن تأثر اللغة والكلام بكافة صنوف الحياة الأخرى. في هذا السياق المعرفي واللساني يأتي كتاب الباحث المغربي في البلاغة وتحليل الخطاب، الدكتور سعيد العوادي “الطعام والكلام حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي” الصادر عن دار إفريقيا الشرق للمشر بالدار البيضاء، 2023، والذي شئت أن أقدمه للقارئ العربي، لما فيه من أسئلة ورهانات بلاغية وثقافية تدفع الباحث إلى فتح عوالم الكتابة والتفكير في التراث العربي ومتون الكتب فالكتاب علامة فارقة في البحث البلاغي اليوم، حيث ينشغل بقضية طريفة مستحدثة، والأكثر أنَّ الانشغال مصحوب باستفزاز علمي يدفع القارئ إلى النظر في قضايا مسكوت عنها أو مهمّشة في قضايا البلاغة العربية، ويفتح مسالك جديدة للنظر.
بدا لي سعيد العوادي من خلال كتابه «الطعام والكلام» منخرطاً في صلب تيار بلاغي تحديثي، يرى أن البلاغة يجب أن تُدرّس خارج الأطر التقليدية بما فيه من تقسيمات معروفة وبما هي بلاغة الخطاب الرسمي (التعليمي) لتنظر في الهامش في الخطابات والمواضيع التي لم يقع النظر فيها، إلى الخطاب اليومي وما يزخر فيه من إمكانات لغوية وثقافية. وقد شكّل الرهان الأساسي لهذا الكتاب الكشف عن أطروحة أثر الطعام في الكلام وأثر الكلام في الطعام، ولكنَّ الأهم في نظري – أنّ العوادي سار في طرق شعابها صعبة ومسالكها دقيقة حتى نخال أنفسنا أننا مقبلون على بوادٍ قلما وطأتها أقدام الباحثين. ولا يتحقق ذلك إلا على يد باحثين قادرين على فكّ أسرار الغريب، ولعلّ العوادي كان من بين هؤلاء ، وقد مكنه ذلك من خلال استنجاده بمداخل لغوية وبلاغية وعلمية متنوعة، فنعثر في كتابه على الأنثروبولوجية والسوسيولوجية واللسانيات العرفانية والدراسات الثقافية في بعدها التطبيقي والرمزي، مستعيناً أيضا بما قدمته له كتب التراث من مادة حية، من قبيل الجاحظ والجرجاني والسكاكي والمعري وكتب الطبقات والتراجم يختزل عنوان “الكتاب الطعام والكلام” ثنائية عجيبة قد لا تخطر في بال الباحثين جمعهما بواو العطف تحت أي مسوغ ، ولكن العوادي استطاع ذلك من خلال تجسير المسافات بين المصطلحين والحقلين والمفهومين المتقابلين ليُحقق بهما تقاطعًا صوتياً بين كلمتين تتنغمان في بعدهما السجعي الموسيقي، متجازوا ذلك إلى تقاطع أكثر عمقًا وأبعد مضمونا حين نتفطن إلى التراسل بينهما وصولاً إلى الأبعاد الحضارية والثقافية. والطريف في هذا العنوان أنَّ صاحبه قدم الطعام على الكلام في هندسة تبدو منطقية إذا اعتبرنا أنَّ الطعام يترك أثره في اللغة من خلال ما يقدّم من ترسانة مفاهيمية واستعارية ورمزية، رغم عدم إغفال ما يهبه الكلام للطعام. ولهذا جاء الكتاب في تقسيماته وعنوانه متأثرا بمأدبة الطعام لغة. ويزداد الاعتقاد رسوخًا في جوهر هذه الثنائية حين تخفي وراءها ثنائيات أخرى أثث بها الباحث سعيد العوادي فهمه لهذه العلاقة (الطعام والكلام)، من قبيل ثنائية اللقمة واللفظة.
لم تكن واو العطف في العنوان مجرد حرف رابط بين حقلين، وإنما انتصبت شريكًا فعلياً في تحديد العلاقات، فالطعام حركة تُغدّي الجسم ليقول الكلام، والكلام إعلان من الذهن والإدراك بهذا الاكتفاء الحسي مروراً إلى بناء التصورات الكلام ولد في مآدب الطعام، ولهذا تسمع أقولاً من قبيل «مأدبة لغوية». كما أن تقديم الطعام إعلان عن الكرم في الثقافة العربية، فكم من كناية أثثت طقوس الكرم، ولكن الكلام أيضًا ضرب من الكرم في وجه منه، فقل لي قولا جميلا يحقق إشباعاً عاطفياً وهكذا. وهنا يقول العوادي حول هذه العلاقة: «الواقع أنَّ بينهما من الصلات المتوثقة ما يتجاوز الصوت إلى المعنى اللغوي والدلالة الحضارية، فليس من التوافق الساذج أن تلتقي اللفظة واللقمة في فم الإنسان، فتلفظ الأولى إلى الخارج، وتلقم الثانية لتستقر في الداخل. إنها علاقة خلافية يحيا بها الكائن الإنساني، فالطعام حصنه المادي ضد الجوع والمرض، والكلام حصنه المعنوي ضد الوحدة والخواء. وعندما يلتقي الطعام بالكلام يتحقق الدفء الإنساني بمعانيه المختلفة في الحضارات البشرية المتعددة، لأن الطعام ليس مادة قصاراها أن تهضم، ولكنها مادة تسعى إلى أن تتكلّم، كما لا ينحصر دورها في بناء الذات، وإنما يمتد إلى بناء الحياة». إذا فتحتَ كتاب «الطعام والكلام» ستجد نفسك في ضيافة مأدبة لغوية وثقافية، ولن يهدأ لك بال حتى تُنهي صنوف ما قُدّم لك في هذه الضيافة، فإن تذوقت المفتحات كما أراد هو أن يُسميها المفتحة)، فأضمن لك أنه ليس باستطاعتك ترويض نفسك على التهام ما تبقى، حيث يبدأ في هذه العتبة اللغوية الموزاية لعتبة الطعام المقبلات) باستدراجك إلى روح الكتاب، مقدماً لك بضرب من التنظير هذا التقاطع بين الطعام والكلام لغوياً وحضارياً وثقافياً، وضروبه وهي مفتحة ضرورية ليفهم القارئ عمق التقاطع وأسباب هذا التداخل.
استطاع سعيد العوادي أن يُشيد معمار كتابه وفق روح الموضوع المطروح، حيث سيطرت عليه استعارات الطعام، فجاء الكتاب مُؤثَّثاً في أربعة أطباق، أولها حقل الطعام بين ضيافة الدنيا وضيافة الآخرة، وثانيها جسور الطعام من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ، وثالثها شعرية الطعام القرى والمأكول والمشروب، ورابعها نثرية الطعام الموهوب والمنهوب والمرهوب.
بين الطعام اللذيذ والكلام البليغ بدأ الباحث عقد فلسفة كتابه، ففي الطبق الذي وسمه بـ «حقل الطعام» في ضرب من ترحال بين ضيافة الدنيا وضياف الآخرة، حيث تجد العوادي يأخذ بأيدينا إلى رحلة لغوية وثقافية يحاول من خلالها أن يرصد أهم مميزات هذه الضيافة من خلال تعقب رحلة الطعام في التصاقها بالإنسان بين دفتي الحياة والموت. في هذا الطبق اللغوي ارتأى الكاتب أن يركب المعجم سبيلا للتفكيك من خلال الاشتغال على فعلي) أكل وشَرِبَ). إنَّ تواجد الطعام في حياة الإنسان ضرورة حياتية جعل صاحب الكتاب يركّز على حضوره القوي في تمظهرات الحياة الثقافية والحضارية، فالطعام تشكيل غريب من الهوية والانتماء ومسلك عجيب في تصوير الوقائع ونسق فكري اتخذته الجماعات والأفراد في رسم معالمها وأفكارها، ولهذا نجده يتخلل الصراعات «المعايرة بالطعام» ويُمثل ضربا من الاحتجاج وغيره..أما تمثلاته في ضيافة الآخرة فقد انتصب الطعام عنصرًا مهما في القرآن والحديث متجاوزاً ذلك إلى ما يقدمه من مقاربة إعجازية تمس أبعاد بيانه واستعارته الموغلة في الرمزية.
يعرج بنا العوادي في طبقه الثاني إلى فلسفة «جسور الكلام» في انتقال عجيب من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ، ليكشف لنا تأثير الطعام في الكلام البليغ، منطلقا من افتراض مبدئي وأساسي يقضي بوجود صلات عميقة على مستوى الاصطلاح، حتى نخال أنفسنا أمام تقاطع وتنافذ وتراسل بين المكونين “فالبلاغة هي التبلغ الأكلي، والفصاحة هي اللبن الصافي، أما الاستعارة فهي استعارة ا الأواني المطبخية، ومصطلح الذوق البلاغي هو صورة من صور تذوق المآكل والمشارب”.
ينتقل بنا مؤلف كتاب الطعام والكلام في طبقه الثالث إلى الطعام عند أهل الشعر، ليحفر في تشكلات الطعام في أشعار الشعراء وأهم صفاته، في حين مثل الطبق الرابع طبقا خاصاً بأهل النثر من خلال رضد تشكلات الطعام داخل نصوص الأخبار والخطب والمناظرات والرسائل، مفسّراً ذلك باستحضار شخوص كان لهم ارتباط عجيب بالكلام، وهي الكريم الذي يهب (الطعام الموهوب) والطفيلي الذي ينهب الطعام (الطعام المنهوب) والبخيل الذي يُرهب بالطعام (الطعام المرهوب).
مسارات
سعيد العوادي باحث من المغرب وهو أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب في جامعة القاضي عياض المغربية، ونائب العميد في البحث العلمي والتعاون يهتم ببحوثة في حقول بلاغة البديع في الخطاب الشعري، وحجاجية الصورة، وبلاغة خطابات الحياة اليومية. صدرت لع كتب عدة، من بينها: «أسئلة البديع.. عودة إلى النصوص البلاغية الأولى»، «حركية البديع في الخطاب الشعري.. من التحسين إلى التكوين»، «بلاغة الصورة.. نحو قراءة حجاجية لعلم البيان»، «في بلاغة النص الأدبي.. مداخل تطبيقية»، «الطعام والكلام.. حفريات بلاغية ثقافيةفي التراث العربي»، «مطبخ الرواية.. الطعام الروائي من المشهدية إلى التضفير».
رابط المقال