بلاغة الطعام في الرواية العربية
مصطفى رجوان*
جاء كتاب “مطبخ الرواية: الطعام الروائي من المشهدية إلى التّضفير”، الصادر سنة 2024 عن دار أفريقيا الشرق بالمغرب، ليكمّل المجهود الذي قام به الباحث البلاغيّ سعيد العوادي في كتابه السابق “الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي” الصادر سنة 2023 عن الدار نفسها، وهو كتاب مهمّ لفهم هذا الكتاب، خاصّة وأنّه يتقاطع معهُ في فصله الأول الموسوم بـ “روافد الطعام الروائي”، فإذا كان اهتمام الكتاب الأول قد انصبّ على المدوّنة التراثية، فإنّ كتابه الثاني قد اهتمّ بجنس حديث هو الرواية.
وقد كان الباحث ذكيّا في اختيار عنوان الكتاب، الذي لا يخلو من وظيفة إيحائية عن موضوعه وأسلوبه وأخرى إغرائية تحفّز على قراءته، فالرواية طبخةٌ تجمعُ بين مجموعةٍ من العناصر المتنافرة التي تحتاجُ تجربة إنسانية تستطيع صهرها في جسم منسجم ولا يتقنها حتّى علماء السّرد العارفون بفلسفته وتقنياته.
بالانتقال إلى العنوان الفرعيّ، يقصد الباحث بالمشهدية الطعام المشهدي، الذي خصّص له الفصل الثاني من الكتاب، عندما “يبرُزُ الطعام على شكل مشاهد متفرّقة في العمل الروائي” (ص 65)، أمّا التّضفير، الذي خصّص له الباحث الفصل الثالث، فهو يحيلُ على مستوى يغدو فيه “الطعام الحدث الأساس للرواية، المتعالق مع بنيتها السردية، وانتقاءاتها للشخصيات التي غدت، هي الأخرى، ذات منازع طعامية كشخصية الطاهي أو المتذوّق أو الخباز” (ص 113)، وقد درس هذا النوع من الطعام الروائي في روايات جديدة، هي: “كحل وحبهان” لعمر طاهر، و”برتقال مرّ” لبسمة الخطيب، و”خبز على طاولة الخال ميلاد” لمحمد النعاس. وهذا تأسيسٌ منهجيّ مهمّ من الباحث، يقوم على مقصدية المؤلّف من حضور الطعام في الرواية، فالطّعام قد يحضُر بشكلٍ عرضيّ أو موضعيّ في سياق نصّيّ معيّن ليؤدّي وظيفة معيّنة، وقد يركّز عليه المؤلّف في بناء عالمه التّخييلي والتواصُل مع قارئه والتّأثير فيه بوساطته، ليشتبك مع مكوّنات الرواية مثل اللغة والشخصية والمكان.
لا شكّ في أنّ الموضوع الذي تناوله الباحث في هذا الكتاب يثيرُ بعض الغرابة والدهشة في أوساط الأكاديميين قبل عموم القراء، وهو ما عبّر عنه الباحث بـ “النظر الارتيابي والانتقاصي من هذه التيمة” (ص 167)، لكنّهُ لا يعكِسُ ابتداعًا في البحث بقدر ما يعكس فراغ المكتبة العربية في النقد الروائي من الدراسات الجديدة والطريفة وخوف الباحثين من مجاهيل المغامرة وركونهم إلى المتداول المضمون، فالنقد الروائي العربي ما برح يمضَغُ نفسه ويعيدُ ما قيل بصيغ أخرى. إنّ الطعام الروائيّ ليس ابتداعًا من الباحث، ولا يمكن قَبول الادّعاء بأنه “لا يليق بوقار النّقد” (ص 167)، فالباحث يعالِجُ مكوّنًا حاضرًا في الروايات بدرجات متفاوتة، بل إنّ بعض المؤلّفين قد اختاروا الطعام وسيلةً تعبيرية في بناء عوالمهم الروائية والتواصل مع قرائهم والتّأثير فيهم. أمّا الابتداع الحقيقي فيكمن في أن الباحث وجّه النظر إلى هذه التيمة من الرواية، التي لا بدّ أن يكون المحلّل واعيًا بقيمتها وفلسفتها ليتعامل معها متى صادفها في الرواية.
يُعزى اختيار الباحث جنس الرواية من بين الأجناس المعاصرة إلى أمورٍ كثيرة؛ أوّلُها أنّها جنس العصر الذي يحقّق مقروئية عالية، كما أنّها مختبرٌ ثريّ لدراسة الطعام في السّرد نظرًا لخصائصها النّوعية التي تسمح بحضور تيمة الطعام بكثافة وتخييلها وتفتيتها وربطها بالتاريخ والمجتمع والثّقافة والجنوسة … إلخ، والأهمّ أنّ الرّواية جنسٌ مثاليّ لهدم المثالية ومناقشة التيمات التي تبدو هامشية، ومن شأنها لفت الانتباه إلى أهمية الطعام وتجاوُز النظر إليه نظرة بيولوجية وإدراك أهميته في تشكيل الهوية والثقافة والعلاقات الاجتماعية وأنساق التفكير… إلخ.
وقد دلّل الباحث على أنّ الرواية العربية ليست منفصلة عن جذورها التراثية العربية، من خلال عرضه، في الفصل الأول، الروافد الأصيلة متمثّلةً في الأجناس السّردية التراثية مثل الأخبار والنوادر والمقامات، وهي مادّةٌ سرديةٌ يمكن أن يستفيد منها الروائيون العرب في تشكيل عوالمهم السّردية وإثراء أسلوبية الكتابة الروائية، أمّا من الناحية الدلالية فيدلّ التفاعل معها على دلالات منها التشبث بالثّقافة العربية وتجذّر الهوية. كذلك عرض “الرافد الخارجي” المتمثّل في مجموعة من الروايات الغربية، لمّا كانت الرواية العربية مرتبطةً أجناسيًّا بالرواية الغربية ويعكس هذا الارتباط قيمة الانفتاح على الآخر.
“قرأ الباحث الطعام من منطلقات بلاغية ثقافية في علاقته بجنس الرواية ومشتبكًا مع مكوّناتها مثل الشّخصية والمكان كاشفًا عن أنساقه الثّقافية وأبعاده الفكرية”
قدّم الباحث من خلال نماذج الكتاب التحليلية قراءة تأويلية عميقة للطّعام الرّوائي، فإنّ مجرّد استخراج مواطن الطعام في الرواية ووصفها لا يعدُو أن يكونَ تفكيرًا بالبطن لا بالعقل السّردي، فقد قرأ الباحث الطعام من منطلقات بلاغية ثقافية في علاقته بجنس الرواية ومشتبكًا مع مكوّناتها مثل الشّخصية والمكان كاشفًا عن أنساقه الثّقافية وأبعاده الفكرية.
لم يُنسِ ميل الباحث إلى القراءة الثّقافية للطعام في الرواية تكوينَهُ البلاغيّ، فالكتاب نواةٌ مهمّة لدراسة بلاغة الطّعام في الرّواية العربية، لكنّ هذا الكتاب لم يتعمّق في هذا الجانب، لأنّ أعمال المقاربة البلاغية قليلة جدًّا ولم تتجذّر بعد في السياق العربي. وقد أكّد الباحث في بداية كتابه وظيفة الطعام التّخييلية في الرواية، عندما قال: “يصنعُ فنّ الرواية عالمًا متخيّلًا يتفاعل مع العالم الواقعيّ من خلال مبدأي التقاطع والتوازي، ويشغّل فيه الروائي حزمة من الحيل بهدف الإيهام بإمكانية تحققه. ويعدّ توظيف الأطعمة والأشربة واحدًا من الحيل الإيهامية، التي تجعل للشخصيات الروائية حضورًا حيًّا وإنسانيًا، لا سيّما وأنّ السجل الغذائي موجود في كل مكان من حياتنا اليومية” (ص 7). فالطّعام الروائي اختيارٌ واعٍ من المؤلّف للتواصل مع قارئه الضّمني، ويساعد القارئ على أن ينغمس في العالم التّخييلي كما لو كان عالمًا حقيقيًّا، ويثيرُ فيه استجاباتٍ تخييلية وعاطفية وأخلاقية، حسب أغراض المؤلّف، كما لو كان طعامًا حقيقيًّا، استجاباتٍ عاطفية مثل الإعجاب بالشخصيات التي تطبخ أو الحنين إلى طعام الماضي (النوستالجيا) والرّغبة في تناوُل الأكلة الممثَّلة، وأخلاقية مثل كره الشّخصيات أو التعاطف معها أو الإعجاب بها من خلال تعاملها مع الطعام حين تأكل وحين تمنح الطعام وحين تمنعه… ويمتدُّ هذا التّأثير إلى أن بعض القراء يعمَدُون فعلًا إلى زيارة بعض البلاد لتناول الأكلات التي مثّلها السّرد أو زيارة مطعم تحدّث عنه المؤلّف أو إعداد بعض الأكلات التي وصفها السّرد.
كما يمكن أن تتخذ الأسلوبية السّردية أساليب متعدّدة منها الطبّخ على مستوى أسلوب الكتابة ولغة السّرد. على أنّ الطعام يُمكن أن يؤدّي دورًا في تكوين السّرد، خاصّة عندما يكونُ حضورُه وظيفيًّا لا شكليًّا، يستدعي اهتمام القارئ وملاحظته وتأويله.
يثيرُ الطعام الروائي، كذلك، قضايا فكرية ذات بعد اجتماعي مثل الكرم والبخل، والهوّة بين الأغنياء والفقراء، وقضايا ذات بعد أخلاقي مثل قضية البيئة والمجاعات، وقضايا ذات بعد تعليمي توعوي خاصّة في الروايات البيئية. ويمكن، كذلك، أن تكونَ الشّخصيات الطّعامية حاملة لفلسفة حياتية وأفكار متعلّقة بالطّعام، أو تناقش الرواية من خلاله قضايا مثل الهوية والجنوسة.
لعلّ أهميّة هذا الكتاب، فضلًا عن معالجته تيمةً جديدة، تكمنُ في بعثه روح التّأويل والطرافة في النقد الروائي، فقد ضجّت المكتبة العربية بالدراسات التي تكتفي بإعادة ما قيل بصيغ جديدة بدونَ أن تدفع بالنقد الروائي خطوةً واحدة إلى الأمام معزّزة جدران السّأم الرّخامية، ولعلّها دعوةٌ من الباحث سعيد العوادي، من خلال كتابه الأوّل في النقد الروائي، إلى تجديد روح النقد السّرديّ البلاغيّ.
*باحث في البلاغة وتحليل الخطاب، المغرب.
رابط المقال الأصلي