بلاغة الحياة
“الطعام والكلام؛ حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي” للدكتور سعيد العوادي
بلاغة الحياة المشروع البلاغي للدكتور سعيد العوادي
أطل الباحث الأكاديمي سعيد العوادي على القارئ العربي بإصدار جديد عنوانه: “الطعام والكلام، حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي”، صدر عن دار النشر أفريقيا الشرق، والمؤلف هو أستاذ للبلاغة وتحليل الخطاب بكلية اللغة العربية – جامعة القاضي عياض مراكش. يندرج هذا الكتاب في إطار مشروع بلاغي طموح يسعى للإسهام في تطوير الدرس البلاغي وتحويل بؤرة اهتمامه من مدونة الأدب إلى مدونة الحياة من خلال تدعيم وشائجه وصلاته مع المجتمع والمعيش اليومي.
يقدم الباحث في هذا الكتاب أطباقا أدبية شهية من منظور بلاغي ثقافي، مسلطا الضوء على العلاقة الوطيدة التي تجمع الكلام بالطعام، فلا يحلو الطعام بلا كلام، كما لا يحلو كلام بلا طعام. ولتمحيص هذه العلاقة استقصى الباحث تلك التقاطعات والمساحات المشتركة بين الكلام والطعام، والتنقيب في عدد مهم من النصوص التراثية المتعلقة بآداب الطعام وما قيل فيه وما يرتبط به من سلوكات وأقوال تمزج أحيانا بين الجدة والطرافة. وقد استند الباحث في مقاربته لهذه العلاقة على حقول معرفية متنوعة؛ كالأنثروبولوجيا، والسوسيولوجيا، والسيكولوجية واللسانيات المعرفية والدراسات ثقافية… مع التنقل في جغرافيا تراثية واسعة شعرية ونثرية وعالمة وشعبية، تصف الطعام والشراب، واقترانهما بمختلف الصور الفنية لتشبيهات ومجازات واستعارات وكنايات). وقد ركز الباحث جهده في هذا الصدد على كشف هذه العلاقة مستحضرا مختلف السياقات الاجتماعية والثقافية والحضارية مشيرا إلى أن عددا من الإشارات هي التي دفعته إلى طرق هذا الموضوع والحفر فيه، ومن بين تلك الإشارات الملتقطة؛ ما آثاره صاحب (مفتاح العلوم)، يقول الباحث: «ولم يبالغ أبو يعقوب السكاكي، الذي يعد أول من نبهنا إلى موضوع الكتاب في لحظة من لحظات إشراقته حينما قسم القرى / الكرم إلى قسمين: قرى الأشباح المتصل بالطعام، وقرى الأرواح المرتبط بالكلام». وكذا قول عبد الفتاح كليطو في كتابه (المقامات؛ السرد والانساق الثقافية «إن أدب المأدبة، رغم كونه يحتل حيزا هاما الثقافة العربية، لا يزال ينتظر بصبر الباحث الذي سيقوم بدراسته؛ سوسيولوجيا وشعرية المأدبة ما زالتا في حاجة إلى بلورة». أضف إلى ذلك قلة الدراسات المهتمة بالموضوع من منظور ثقافي بلاغي واهتمام الباحث ببلاغة الحياة اليومية بمختلف أبعادها وتجلياتها حيث يؤكد أن “الكثيرين يعتقدون أن الحديث عن الطعام مندرج حصرا في نطاق (الثقافة البطنية) المبتذلة، وينسون أن الطعام حامل في ثنايا مكوناته لتاريخ إنساني كامل، تتقاطع فيه قضايا الهوية والغيرية ورؤية العالم وأنماط التواصل الرمزي”.
تضمن الكتاب أربعة فصول أو (أطباق) رئيسة، مسبوقة بمُفتحة، ومختومة بتحلية.
- الطبق الأول: حقل الطعام بين ضيافة الدنيا وضيافة الآخرة.
- الطبق الثاني: جسور الطعام من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ.
- الطبق الثالث: شعرية الطعام القرى والمأكول والمشروب.
- الطبق الرابع: نثرية الطعام الموهوب والمنهوب والمرهوب.
ويدعو الباحث في خاتمة الكتاب إلى ضرورة الحاجة إلى كتابات حديثة تقلب أرض تراثنا، لتكشف عن وجوه متفردة من النصوص والخطابات بدل اجترار نصوص مكرسة معروفة ابتذلتها القراءات المكرورة؛ لأن تراثنا العربي كتب بصدق وصبر وعمق وذكاء، فهو جدير بمثل هذه البحوث والدراسات، ويستحق بذل مزيد من الجهود للكشف عن عيونه المتخفية واعتماد الأدوات القرائية الجديدة والرؤى الفكرية العصرية.
يسعى الباحث إذن من خلال كتابه «الكلام والطعام» إلى فتح مجال لبلاغة أكثر رحابة وأغنى فائدة والخروج من قوقعة الدراسات البلاغية التقليدية وتسمية ظواهرها واجترار مواضيعها وقضاياها والاشتغال على نصوصها العليا على حساب بلاغة خطابات الحياة اليومية، داعيا الباحثين إلى مواصلة الحفر في تراثنا العربي، وتقديم قراءات ثقافية حضارية منفتحة على مختلف السياقات والأنساق، فما يضمره هذا التراث أكثر مما يظهر.
الدكتور عبد الرحمان اكيدر
جامعة الحسن الثاني – الدار البيضاء
جريدة العلم