الطعام والنار
التحولات الثقافية لنار القرى في الشعر العربي
الأستاذ الدكتور عبد الفتاح شهيد*
العدد 644 من مجلة البيان لشهر مارس 2024
مجلة أدبية شهرية تصدر من رابطة الأدباء في الكويت*
حكاية كتاب الطعام والكلام للدكتور سعيد العوادي حكاية جميلة، تنبني على أربعة أطباق تنبعث منها روائح الطعام ونشاوى الكلام، وينبجس من خلالها شغف الكتابة بعد هضم الثقافة العربية والإحاطة بمضايقها ؛ بدءاً بالقرآن الكريم مروراً بالشعر والنثر ووصولاً إلى «أنوية» الثقافة العربية الكبرى عبر تاريخها الطويل.
وقد أثرت أن أروي طرفا من هذه الحكاية وقسطا من جمالها المنبعث من بين جلال أشعارها، فأكبر احتفاء بأي بحث هو تفتيق إشكالاته وتدبيج أسئلة تنبعث من بين ثناياه، وقد اخترت إشكالات الشعر والشعرية، عبر آليات تحليلية استند إليها المؤلف منذ العنوان فيما يعبر عنه بالحفريات الثقافية. وركزت في هذه المقالة على موضوعة خاصة هي «نار القرى»؛ تلك النار التي تُنضج الطعام، كما تُسلس عنان الكلام وفيها مآرب أخرى للضيف والمضيف والحفر في أبعادها يفجئنا بالكثير من الأبعاد الرمزية والثقافية التي تفتح أمام الباحثين أفاقا ثرية للبحث في الثقافة والأدب، وفي الشعر والحياة.
فالطعام موضوع شعري أثير، وقد كان العرب في ديوانهم أوصف الناس للطعام والطفهم في ذكره»، وهو كذلك ممارسة ثقافية متجذرة؛ فهو «بناء ثقافي» منغرس في الممارسة الثقافية اليومية للإنسان، فكيف يصبح الطعام غرضا شعريا ؟ وكيف ينفلت من جبروت المؤسسة النقدية وخلفها المؤسسة السياسية؛ التي تجعل من «الطعام» و«الأكل» و«الشرب» معاني جزئية لا ترقى إلى أن تصبح غرضا ؟ و«شعرنة القرى»، ومن خلاله نار القرى وناقة القرى وبقية المكونات الأخرى، هو فعل نقدي غير متيسر، وسيثير به الكاتب إشكالات مهمة في شعرية الأغراض وخلخلة سلطة المدح والممدوح المتمكن من مفاصل القصيدة ومن رقاب الناس. وسيثير الكتاب إشكالات مهمة ونثيرها معه حول الطعام باعتباره موضوعاً شعرياً وبناء ثقافياً، مركزين بحثنا في هذه المرحلة على «نار القرى»؛ فكيف تكون نار القرى موضوعا شعريا دون أن تفقد أبعادها الثقافية؟! وكيف تكون موضوعاً ثقافياً دون أن تفقد خصوصياتها الشعرية والجمالية فعلى ضفاف هذه الأسئلة تتشكل الجماليات الثقافية للنار والقرى في الشعر كما في الثقافة بين الأسطرة ،والشعرنة وبين الماء والنار، وبين المشاركة والصراع، وبين الفناء والخلود… وغيرها من الثنائيات المثيرة التي تنضج في الكتاب على نار هادئة، نقتبس منها هذا القبس في هذه المقالة.
1 – الشعر والثقافة
إذا كان الشعر من أكثر مظاهر التعبير الإنساني ثراء، فإنه من أكثر مظاهر الثقافة العربية شفافية وعمقا، وأعظمها دلالة ونضوحا بالرموز والمعاني والقيم، لاكتنازه عناصر الفن والجمال، وتحولات التاريخ والثقافة والمجتمع، وتجليات الهيمنة ونزوعات المقاومة.
والتحليل الثقافي، الذي نقترحه، إجراء تحليلي نقدي يستطيع استيعاب الآفاق المختلفة التي يرتادها الشعر العربي المتماثلة والمتنافرة الفردية والجماعية المكثفة والممتدة. كما يروم التنبيه إلى هذه التجربة الثقافية العظيمة والمغامرة الإنسانية الجديرة بالاستكشاف، والتي ارتاد غمارها الشعراء بكل شغف والتزام وتعهدها النقاد بالرعاية والتوجيه والنقد بكل عمق واطلاع.
إن منابع الشعر هي ذاتها، وعلاقات الشعراء المطمئنة أو القلقة بالواقع تقتفي الآثار نفسها ، ونزوعاتهم للتغيير والتأثير تستدعي اللغة دائما وسيلة للتعبير، وآلية الممارسة قوة مهيمنة، أو أداة لبلورة موقف
مقاوم ولذلك، فإن الرهان الأساس هو جعل الشعر العربي قديمه وحديثه يرتاد آفاق الكونية، ودفع النقد العربي إلى الانفتاح على هذه التجارب النقدية البينية، من خلال تقديم نماذج متميزة من الشعراء والنقاد العرب إلى الثقافة العالمية بأبعادهم المتعددة، وقدراتهم المتفردة في فهم الإنسان والعالم، وهو ما يستطيع التحليل المستند إلى الثقافة أن ينهض به بكفاءة نزعم أنها كبيرة وعالية.
ولا يمكن ارتياد هذا الأفق في التحليل إلا بتسليط الضوء على قضايا وظواهر تغتني بجماليات الشعر وبرمزيات الثقافة مثل: الطعام والماء، والنار وغيرها من الظواهر التي تنتظم الأبنية الثقافية وتؤسس لفاعلية تحليلية للشعر تخترق حقولا معرفية مختلفة لتعيد بناء «قصة مقبولة» وتسائل تلك البدهيات والأحكام المتوارثة، التي جرى تعهدها بعناية كبيرة، حول «شعر وشعراء» كانوا أعمق بكثير مما تروج حواليهم والاستناد إلى رمزيات الثقافة سيؤدي إلى اكتشاف تلك الثنائيات المتوترة والمناطق الرمادية والرموز الكبرى التي كان الإنسان العربي يحيا بها، وتحيا شعريا في أوصال القصيدة، وتبلغ رسالة الشعر الجميلة عبرها إلى كل الأجيال وسائر الثقافات؛ للانتقال من قضية الشعر إلى شعرنة القضية.
2 – القرى وناره
وفي التاسيس المصطلحي، فإن القزي جمع الماء في الحوض، والقَرْوُ القَدَح والمقراق القضعة وقريت الصيف: احسنت إليه… فلأمر ما كانت الأصول الأولى لفعل القرى العربي مائية خالصة تُصَبٌ في قَدَح قبل أن تصير أكلية تُفرغ في قصعة. وربما أن الحاجة للماء في الصحراء تفوق أهمية الأكل؛ ثم اتسع «القرى، ليصير إحسانا بـ الطعام» ثم بـ «الكلام»؛ وهذا جزء من سحر عنوان هذا الكتاب.
والقرى عنصر أصيل من عناصر الثقافة العربية والإسلامية؛ ففضلا عن أن الشاعر الجاهلي تغنى به في أشعاره ويبيت ليله واقفا على النار يبحث عن ضيف يقريه وإن على النار الندى وابن ثامل (حماس بن ثامل؛ فإن ابن أبي الدنيا كتب كتابا سماه «قرى الضيف وافتتحه بقوله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحسن قرى ضيفه» رواه الإمام البخاري في «الأدب المفرد»؛ مما يدل على أن القرى فعل مستمر في الحياة العربية قبل الإسلام وبعده. فإذا كان في الجاهلية من مقومات اخلاق المروءة العربية، فإن له في المجتمع الإسلامي بعدا عقديا يجعله قضية إيمان أو عدمه.
والنار معروفة ونار الناقة سفتها، وفي معجم مقاييس اللغة أن «النون والواو والراء أصل صحيح يدل على إضاءة واضطراب وقلة ثبات.
منه النور والنار ؛ وهي دلالات تظل ملتصقة بالنار ملازمة لها. وقد اهتم العرب كثيرا بالنار وأحوالها، فذكروا أسماءها وترتيبها وعنادها، وفصلوا في نيران العرب وعلاقتهم بها .. ويبدي الجاحظ اهتماما بالنار أكثر من اهتمامه بالماء والهواء، وله في ذلك حجج دامغة.
أما نار القرى التي سينصرف إليها اهتمامنا، فهي «نار توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل، وتسمى أيضا «نار الضيافة»، وهذه النار عندهم أجل سائر النيران بسبب أنها تهدي إلى بيوتهم الضيفان.
وقد ظلت النار وسيطا بين الإنسان والله في طقوس التعبد، ثم أضحت وسيطا بين الإنسان والإنسان في سياقات مختلفة؛ منها طقس القرى» الذي نتحدث عنه، والذي يشكل بنية محورية في مقطع الكرم مدحاً وفخراً.
وقد وقف الأستاذ سعيد العوادي عند هذه النار أثناء حديثه عن الترميز الثقافي لأصول الطعام، كما وقف عندها وهو يرصد القوى المساعدة في صراع المعيق والمساعد ضمن بنيان القرى». ويرى أن أنواع النيران عند العرب، وفي رأيي كما عند غيرهم، حاملة دلالات سيميائية ورمزية عميقة ومتنوعة. كما شاع حضورها في التعابير المجازية أثناء الحديث عن الأحاسيس المحرقة التي تكوي القلوب في السياقات الاجتماعية المختلفة»؛ ثم يردف فيقول: وتبقى النار في نظام الكرم ذات رمزية أكثر غوراً وعمقاً». فنار القرى تجعل الليل الأعمى نهاراً مبصراً تختار لها أعلى الأماكن وأجود الحطب وأزكى الروائح ولعل – يقول الكاتب – عادة البخور للأضياف اليوم تعود جذورها إلى هذا التاريخ القديم». وهو ما يجعل هذه النار ذات خصوصية رمزية تجعلها محورية في «فعل القرى»؛ لا تتم إلا على شرائط أبدع الشعراء في رسم ملامحها.
3 – نار القرى والليل
نار القرى تضطرم خلال مشهد القرى المسرحي، الذي تتأجج خلاله نار عظيمة في ليل بهيم، وتشخّصه مجموعة من الشخوص الإنسانية والحيوانية: المضيف أو من يخدمه الزوجة الضيف، الكلب، الناقة.
وقد عبر الحريري عن هذا المشهد بعيون ضيف ليلي أنهكه المسير وأضناه التعب؛ بقوله: «فأقبل فتى أحسن من نار القرى في عين ابن السرى» ؛ فهذه النار الليلية تتسم برونق عجيب وعظمة غير عادية يجعلها تتلألأ في عيون ضيوف الليل المقصودين بها تلألؤها في عيون من يشعلونها ويستهدفون غيرهم بها. واشترط لها الشعراء شرائط منتزعة من ثقافة الصحراء الراسخة؛ فهي نار حمراء ساطعة الذوائب في الدجى» (المعري) تنبجس في الظلماء الوية حمراء (ابن هرمة) يعشو إلى ضوئها » الضالون (الحطيئة)، في ليل قرّ «ظلماؤه جللت البقاع، (أبوزيد الأعرابي).
وهي نار ليلية لا تنطفئ مستمرة «في الآصال والأسحار» (المعري)؛ نار قديمة لورتُ عن الاسلاف من أول الزمان الرضي/ المعري). والشاعر أو الممدوح أو من يخدمه يبيت ليله يؤجج هذه النار ويُشَذَّبُ جذوتها بكل منار عمارة اليمني) و«لا تزال تأتلف» «حتى الصباح» (الحمداني).
إن اضطرام هذه النار واستمرارها طوال الليل طقس متوارث أباً عن جد، يدل على استمرار قيمة «الكرم» في متاهات فيافي الصحراء، التي لا تستمر الحياة فيها إلا بتكريس هذه القيمة الإنسانية العظيمة. وهي ممارسة ثقافية ذات أصول دينية خالصة ؛ فقد أوقدت النار بالمزدلفة حتى يراها من رفع من عرفة”. ففعل التأجيج يجب أن يظل مستمرا، لأن من خصوصيات النار أنها إذا لم تضطرم يخمد أوارها: «وإذا تركت النار تعيش حياتها الطبيعية هرمت وماتت كما يهرم ويموت الحيوان والنبات»؛ ففعل التأجيج يجب أن يظل مستمراً، وهو ما يحرص عليه الشاعر:
یا موقد نار القرى للساري
ومشيب جذوتها بكل منار
فالمستهدف بنار القرى هو الضيف السائر ليلا، فعليه أن يبحث عن النار وعلى المضيف أن يشعل جذوتها ثم يؤججها ويحافظ على استمرارها، لأن استمرار الاشتعال هو الضامن لاستمرار القرى ولاستمرار فعل الكرم في الحياة كما بالقصيدة. فالمهم إشعال النار، والأهم منه المحافظة على استمرارية اشتعالها وتعهد تأججها والحفاظ على حيويتها :
لعمري لَقَد لاحَت عُيونُ كَثِيرَةٌ
إلَى ضَوءِ نارٍ فِي يَمَاعٍ تُحَرُقُ
تُشَبُّ لقرورَينِ يَصطَلِيانِها
وبات على النار الندى والمخلق
فهي ليست ناراً معزولة عن نار السلطان والشرف، بل هي قرينتها تأتلف معها، وتمكث بمكوثها.والحيز الزمني لهذه النار هو من آخر النهار، الذي يطرق خلاله الأضياف عادة، إلى الأسحار حيث يشتد البرد والظلام «الموقدي نار القرى الآصال والأسحار في نظر أبي العلاء المعري.
فالليل بطوله هو الفضاء الزماني لهذه النار، وهو فعل متأتّ من رغبة متمكنة ومتأصلة في الإنسان، من أجل الامتداد بالنهار ومحاربة الخوف المنبعث من بين جوانح الظلام، من الحيوانات المفترسة والكائنات الغريبة والإنسان المجهول؛ هذا المجهول الذي يسبغ عليه المضيف سمة الضيف الضائع في الصحراء، لعله يمتص روح الشر التي قد تكون منغرسة فيه. وكأنه يسترد «القيمة التطهيرية» للنار المنغرسة في الفكر الإنساني منذ القدم؛ فالنار هي الوحيدة حسب باشلار التي تجمع بين الجزاء والعقاب؛ «تتألف في الفردوسوتستعر في الجحيم عذوبة وعذاب».
إن الليل هو زمان الخوف والصمت فتضفي عليه النار الأمان المفتقد وتؤمن فيه استمرارية الكلام؛ لتستمر القصيدة وفعل الكرم لمواجهة قسوة الطبيعة ولتليين قساوة الإنسان.. فتعاضد الليل والنار هو الذي ينبجس من خلاله الوجود كما تنبجس من بين ثناياه أجمل الأشعار
م – نار القرى والجبل
لقد تنبه العوادي إلى العلاقة الوطيدة بين نار القرى والأماكن العالية في الثقافة العربية؛ «فقد اختار الكريم لسكنه أن يكون في الأعالي واليفاع ليشخص للضيف وتقتحمه عينه، ولذلك افتخر الكرماء بهذا الامتياز، وعُدَّ عندهم علامة جغرافية سيميائية تختصر فعل الجود الذي يجب أن يتساوق مع رمزية العلو والارتفاع»، ويعزز هذا السكن بالنار العظيمة التي لا تنحجب في المنحدرات والفجاج؛ فلما كاد القرى يستقل بالزمن الليلي، كان لا بد من تعضيد العلو بالنار ليتعاونا على إرشاد الضيف وهدايته إلى موضع القرى، وقد استثمرت الخنساء هذا الجمع في رثاء أخيها صخر؛ فقالت:
أغر أبلج تأتم الهداة به
كأنه علم على رأسه نار
فقد أبدع الشعراء في الإعلاء من شأن نار القرى، والتفاخر بأنها سامقة في الشرف عالية على اليفاع بارزة للضيوف من بعيد يأتمونها حيثما كانوا؛ فهي على شرف المقاري تأجَجُ»، و على اليفاع تُرْفَعُ.
وهو ما نبه إليه الجاحظ وهو يستجلي أحوال «نار القرى» في الشعر العربي بأنها «كلما كان موضعها أرفع كان أفخر فالرفعة الرمزية للممدوح في مقطع المدح وللشاعر في مقطع الفخرلا تتحقق إلا عبر الرفعة الواقعية للنار في مكان عال. في صورة رمزية يعم فيها النور على الظلام والدفء على البرودة والأمان على الخوف؛ وذلك كل ما يطلبه الإنسان الهائم في ظلام ليل الصحراء الحالك المخيف والبارد. قال الأحوص:
إني إذا خفيَتْ نارٌ مُزمِلَة
الفي بأرفع تل رافعاً ناري
فيكتمل العلو المتحقق بالشجاعة والكرم والنسب بعلو آخر متأت من إعلاء النار لتظهر للضيوف الآتين من بعيد، بينما نار المنافسين في الشرف مخفاة في المنحدرات؛ فلا يكفي إيقاد النار وتعهدها بالرعاية لتبقى مشتعلة؛ بل لا بد من اختيار المكان المناسب لإشعالها، ولا بد أن يكون هذا المكان في مرتفع عال ليراه الضيوف من بعيد ويسمعوا تَغَيُّظ غليان القدور خلاله:
وقدور على اليفاع ينادي
الضيف منها تغيظ الغليان
نصبت للعفاة في رأس نيق
شاهق الهضب شامخ الأركان
فغليان القدور تُشمع له أصوات تنادي الضيوف من بعيد، ومنظر النار على الهضاب العالية تتطلع له أبصارهم والروائح الزكية المنبعثة من المواد المشتعلة تجذب أنوفهم، فيتعاضد السمع والبصر والشم للإحاطة بالضيف من كل جوانبه؛ حتى يصبح «فعل الكرم» فعلاً إنسانياً ممتداً في كل الحواس شامخ الأركان شاهقاً في الأعالي.
فشموخ الممدوح وعلو قيمته محمي بنار مستعرة ستمكث متأججة دفاعاً عن شرف متمكن ومكانة راسخة، هي نار مطهرة لكل من في نفسه رين أو عداوة مكرمة لكل من في نفسه عطاء أو محبة؛ يعليها الممدوح الشاعر فتعلي من مكانته وتكرس سلطانه وعظمته؛ وهي من بركات النار التي لا تنقضي ما دامت مشتعلة مضيئة ومدفئة دالة على شيم كرم مروم وأصل راسخ.
5 – النار والمرأة
أدرج الكاتب المرأة ضمن القوى المعيقة لفعل الكرم من منظور الشاعر ؛ «تلك العاذلة اللائمة التي تقف في وجه كرم فحولي لا يبقي ولا يذر، تُخاطب بعبارة «ذريني» وتواجه مقولات الإسراف، من قبيل «الشرف في السرف»، و علي الجمال وعليك الحبال بعقلها السرف والحد منه بمقولات من قبيل: «حبس المال أنفع للعيال من بذل الوجه في السؤال» معارضة بشدة لصفقة شراء الحمد بالقرى.
ويستحضر الشاعر العربي المرأة في سياق آخر وهو يبني صورة ناره العظيمة البارزة للضيوف من بعيد، ولكي يقوي أثر ناره ويعزز عظمتها وجاذبيتها يجعلها مثل امرأة سافرة متكشفة، بينما نار غيره متقنعة متوارية؛ في إيحاءات شبقية غير بعيدة عن الارتباط المركوز في الثقافات الإنسانية بين المرأة المثيرة والنار المذفئة؛ ومما ينسب لأبي زيد الأعرابي:
له نار تشب على يفاع
إذا النيران البست القناعا
ولحاتم الطائي: «وليس على ناري حجاب يكنها ، فإذا كان الاحتشام والتقنع مطلوبين في المرأة العربية في الواقع كما في القصيدة والشنفرى يقول: «لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها، ويقول المهلهل: «قد كُن يُخبئن الوجوه تستّرا ؛ فإن هذا الاحتشام وهذا التقنع مستكرهان في نار القرى التي يجب أن تظل سافرة ظاهرة جذابة لا يخمد آوارها. وإذا كانت الثقافة تطلب من المرأة أن تكون عاقلة رزينة؛ «إذا ذكر النسوان عفت وجلت»الشنفرى ) ولا تراها السر الجار تختتل (الأعشى)؛ ففي الآن نفسه يجعل الشاعر ناره أو نار ممدوحه حمراء أخرق نورها، يقول ابن عبد الأعلى العبدي:
رفعت له حمراء أخرق نورها
قميص الدجى إذ طار فيه لهيب
فتجلي النار للقاصدين وهيجانها المستمر، وتشبيهها بامرأة غير متقنعة خرقاء ينبعث لهيبها ؛ هو ما يجعل النار مقصودة مطلوبة جذابة، وهو ما يغري الضيفان بقصدها دون غيرها. وهو في الآن نفسه ما يجعل فعل الكرم مستمرا وفعل العطاء غير محدود مرتبطا في العمق بنماء وخصب إنساني يجب أن يظل مستمرا. وهو ما يبرع الشاعر في رسم معالمه وبيان أبعاده بحسيّة واضحة؛ درج على تجويد قصائده بإتقان رسم ملامحها.
وفي الختام، فإن «نار القرى» موضوع شعري وثقافي أثير، ذلك لأن الطعام بكل مكوناته بناء ثقافي متجذر في الثقافة ونار القرى» مكون أساس في ليل الشاعر البهيم كما في قصيدته المنيرة ورمزياتها لا تنقضي؛ فكلما تأججت انبعث منظر لهيبها الساطع، وصوت غيظها ورائحة طيبها، لتدعو أي إنسان مهما كانت نواياه ومقاصده إلى تقمص دور الضيف اتقاء لهذه النار ومن عليها.
وهي نار أبدع الشعراء في رسم ملامحها وملاحمها فهي نار مستعرة من الأصال غلأى الأسحار، يتعهدها الشاعر الممدوح بالإشعال والتأجيج طول ليله. ولا بد من أن تتفيأ هذه النار مكانا عليا بعيدا عن المنحدرات والفجاج يعضد فيها علو النار الشرف المتأتي من شموخ الأركان، وهي نار جذابة سافرة متكشفة تسترعي الأضياف وتحمل معاني الخصب والنماء، داعية كل إنسان إلى الولوج في فعل الكرم وطقوسهالإنسانية المفعمة بالصدق والوفاء.
وقد شرح العوادي في كتابه «الطعام والكلام… حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي كل هذه التفاصيل المفعمة بالرمزيات والعلامات، مما يجعل الكتاب دعوة مفتوحة للباحثين لتعميق النظر في هذه الجزئيات في أبعادها الرمزية والثقافية الممتدة في أعماق التراث والتي لا نقرأها للاستمتاع فقط، بل نقرأها ونعيد قراءتها لأننا نلفي فيها معنى لنا، نحن القابعون في عالم الصراع والعنف واللاكرم ونبحث خلالها عن أفق فكري نحن المنزوون في عوالم متشظية تسير بسرعة كبيرة نحو خواء مجهول العواقب.
الطعام والنار... التحولات الثقافية لنار القرى في الشعر العربي