الطعام والكلام
من المأدبة الشهية إلى العبارة الطرية
يسعى كتاب “الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي” للباحث المغربي سعيد العوادي إلى إحياء فلسفة فريدة في التراث العربي، تقوم على ربط مدهش وذكي بين مادية الطعام ورمزية الكلام، بين المائدة بوصفها فعلًا مادّيًا، والمأدبة بوصفها نصًا لغويًا. فالقول هنا ليس مجرّد تعليق على الأكل، بل بديل رمزي له، بلاغيّ الطابع، دينيّ الإيحاء، وثقافيّ العمق. في هذا الإطار، يغوص العوادي في متون عربية تراثية، شعرًا ونثرًا، ليكشف عن بُنى بلاغية تُعلي من شأن الكلمة في وصف الطعام وتقديمه، بل وتحويله إلى مجال تأملي واسع حول الذات والأخلاق والمجتمع.
الكتاب، الصادر عن دار “أفريقيا الشرق” (2023) في 295 صفحة من القطع المتوسط، والحائز على “جائزة الشيخ زايد للكتاب”، في دورتها التاسعة عشرة، ضمن فئة الفنون والدراسات النقدية، يُعدّ ثمرة بحث أكاديمي متين، وسليل مشروع ثقافي وبلاغي يجتهد فيه العوادي لتوسيع مجالات البلاغة العربية، عبر الانفتاح على قضايا الحياة اليومية وما اعتُبر هامشيًا وصغيرًا، مثل الطعام، لتتّضح فيه أسئلة كبرى ترتبط بالمعنى والرمز والقيمة.
في الكتاب، يتداخل الطعام بالكلام والشراب لتشكيل ثلاثية ليست غريبة عن الاستعارات البلاغية القديمة، نطالعها عند التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة”: “ادخل وكل”، وعند الجاحظ في “البخلاء” حيث يقول ابن المُؤَمّل: “الطعام والشراب أخوان متحالفان ومتوازران”.
تتألف مأدبة سعيد العوادي الرمزية من ثلاثة “أطباق” بلاغية متخيلة، تنفتح على عوالم شتى من المعنى؛ أولها حقل الطعام الذي يربط بين ضيافة الدنيا وضيافة الآخرة، وثانيها الجسور التي تمتد من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ، وثالثها ما يتوزع بين شعرية الطعام بما فيها من قِرى ومأكول ومشروب، ونثريته بما تحمله من معاني الموهوب والمنهوب والمرهوب.
ليس حاجة بيولوجية، بل ممارسة يومية تعكس شخصية الإنسان
هذه المأدبة تقوم على ثنائية الأصل والفرع؛ إذ الأصل مادي دنيوي، والفرع معنوي ديني، لكن هذا التمييز سرعان ما يتداخل، فينقلب الأصل فرعاً، ويتحوّل الفرع إلى أصل، في تبادل رمزي دقيق. فالكلام، الذي قد يُظن أنه مجرّد تابع، يتضح أنه الأداة الوحيدة لفهم الأصل المادي ذاته، إذ لا تُعرف قيمة الطعام إلا بالكلام الذي يصفه، ويعدّد لذّته ومحاسنه. كما أن للطعام بعدًا روحياً لا يمكن إغفاله، فهو متصل اتصالاً مباشراً بكل ما هو ديني ودنيوي، ولعل في لجوء الإنسان إلى حمد الله بعد كل لُقمة شهية، أبلغ دليل على ذلك. وفي افتتاحية كتابه، يعبّر المؤلف عن هذه الرؤية بتضرع شعري يقول فيه: “الحمد لله الذي أفاض علينا بألوان الشراب وصنوف المأكولات، ميّزنا باستعمال الكلام وابتداع الاستعارات، ومنحنا عقلاً وذوقًا يمزج المفردات بالطيبات، فنجمّل أطباقنا ببديع المشتهيات، ونزين كلامنا بلذيذ العبارات”.
حين يفرغ القارئ الذوّاق، الملم بأسرار الطعام والقول، من قراءة الكتاب، يشعر بقدر من الزهو، وكأنه يستعيد صلة وثيقة بحضارة عظيمة منحت الطعام والكلام معًا مكانة خاصة. حضارة لم تكتف بتذوق الأطعمة، بل تذوقت الألفاظ أيضًا، وأبدعت في التعبير عن الاثنين بما قلّ مثيله في ثقافات أخرى. وقد تخطر على البال هنا “مأدبة” أفلاطون، لكن الفارق واضح؛ فبينما جعل الفيلسوف اليوناني من مأدبته حوارًا في الحب، كانت المآدب في تراثنا العربي غنية بمذاقات الفكر والأدب والفن، ممتدة في الزمان والمكان، من مجالس بغداد إلى صالونات الأندلس، ومن فاس إلى القاهرة. في هذه الثقافة، كل شيء قابل لأن يصبح مأدبة إذا ما لامسته يد الشعر أو خيال الفلسفة، فكما جعل العرب من الكلام مأدبة، جعل أفلاطون من الحب مأدبة. والكلام هنا لا يقف عند حدود الوصف، بل يفتح بابًا لا نهائيًا للاستعارات والتصورات. أليس تشبيه القارئ بـ”الإنسان النهم” دليلاً على براعة عربية في التخييل والتذوق معًا؟
يجدر التذكير هنا بأن المؤلف في جوهره باحث في البلاغة، وهذا يمنح القارئ مفاتيح لفهم مسار تفكيره وطريقته في التقاط المعاني من ظلال الكلمات، لا من ظاهرها فقط. فهو لا يكتفي بالنظر إلى اللفظة بل يغوص في أعماقها، باحثًا عن أثرها الثقافي ورمزيتها في السياق الذي وُظّفت فيه. ضمن هذا المنحى، ينطلق الكتاب من ظاهرة تداخل مفردات الطعام مع البلاغة، إذ اعتمد كثير من البلاغيين شواهد من عالم الطبخ، وهو أمر يؤكده المؤلف نفسه. فبينما قد تتردد الأنثروبولوجيا في اقتحام هذا المجال، فعلت البلاغة ذلك، خاصة حين انفتحت على مناهج حديثة في تحليل الخطابات.
أما البلاغة التقليدية، تلك التي كانت منشغلة بتسمية الظواهر فقط، فقد تجاوزها الزمن، ويصفها العوادي بأنها علم يلتهم نفسه. ضمن هذا التحول، يندرج كتاب “الطعام والكلام”، الذي يستند إلى تراث بلاغي عربي غني، أبرز ممثليه الجاحظ، الذي رفض حصر البلاغة في النصوص المقدسة والشعر الجميل، ودعا إلى تتبعها في تفاصيل الحياة اليومية، في أحاديث الباعة والنساء والأطفال وحتى اللصوص والبخلاء. وكذلك عبد القاهر الجرجاني، الذي أضفى على البلاغة عمقًا تحليليًا، وحررها من الأحكام الانطباعية، عبر مؤلفاته في “الدلائل” و”الأسرار”.
ليس هناك فعل ارتبط بالأخلاق كما ارتبط الطعام بها. يكفي أن نستحضر قول الزمخشري: “قالت الحكماء: من ضبط بطنه، فقد ضبط الأخلاق الصالحة كلها” (ربيع الأبرار ونصوص الأخبار). فالأكل ليس مجرّد حاجة بيولوجية، بل ممارسة يومية تعكس شخصية الإنسان وتتحكّم في سلوكه، حتى إن القدرة على تقييد الشهوات أثناء الأكل تُعدّ مقياسًا لانضباط الأخلاق. فكما أن الطعام لا يقبل العفوية، كذلك الأخلاق لا تُترك على سجيتها.
إحياء نصوص وشخصيات كانت على هامش الذاكرة الثقافية
هذا المنظور يجعل من الطعام قضية مثالية تتجاوز البعد الغذائي لتلامس أسئلة الذات (نفسًا وبدنًا)، والمجتمع (قيمًا وأعرافًا)، والدين (مُثلاً وتشريعات)، والثقافة (رموزًا وتمثّلات). وهنا يتّسع مجال التأويل والتحليل والتقويم.
كتاب “الطعام والكلام” لا يقتصر على المعالجة البلاغية الخالصة، بل يغرف بغزارة من المدونة الشعرية التي ارتبطت بالبلاغة منذ قرون، مثلما يتوقف عند شعر المعري، الذي اشتهر بتفكيكه الدقيق لبيتين شعريين للشاعر الجاهلي النمر بن تولب، إذ جعل من الطعام مدخلًا للعبور بين حروف المعجم كافة.
أما النص القرآني، فهو بدوره حاضر بقوة، ومن أبرز الأمثلة سورة الحجرات، التي تربط الأكل بالأخلاق في آية بالغة الدلالة: “أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ”. بهذا المعنى، يُعيد الكتاب إحياء نصوص وشخصيات كانت على هامش الذاكرة الثقافية، ويمنحها أبعادًا جديدة بفضل اطلاع المؤلف الواسع وصبره على البحث ودقّته في التحليل.
ويختم العوادي كتابه بمجاز طريف، يؤكد فيه أن “الكتابة ما هي إلا عملية طبخ متكاملة لمواد معرفية مختارة، يضيف إليها الكاتب بهارات لغوية ومنهجية بخبرة الطاهي المتمرّس، ليقدّمها لقارئ نهم لا يشبع من الطيّبات”. أما هذا القارئ المتلهّف، فسيخرج من هذه المأدبة راضيًا، شبعان العقل والبطن، معتدل الخلق والطبع.
* شاعر وروائي من المغرب